بيرام الداه اعبيد : « أنا مجدد ديني واجتماعي وسياسي لدي مشروع حقوقي وسياسي وفكري يتسم بالقطيعة مع ما كان سائدا في المجتمع الموريتاني « 

في مقابلة شاملة مع زعيم حركة إيرا بيرام الداه اعبيد يعرف النائب البرلماني نفسه بأنه « مجدد ديني واجتماعي وسياسي .. لديه مشروع حقوقي وسياسي وفكري يتسم بالقطيعة مع ما كان سائدا سياسيا وحقوقيا وفكريا واجتماعيا في المجتمع الموريتاني ».

كما يتحدث عن طفولته وعلاقة أسرته بالعبودية ووصية والده ومساره الدراسي والوظيفي، إضافة إلى تجاربه السياسية والحقوقية التي قادته إلى تشكيل حركة إيرا وشق طريقه النضالي الخاص به.

مجابات: نرحب بكم في مستهل هذا اللقاء ونشكركم على التفضل بقبول إجراء هذه المقابلة. بالرغم من شهرتكم على المستويين الوطني والدولي، ماذا لو طلبنا منكم تقديم بيرام الداه اعبيد للقراء: متى وأين ولد؟ كيف عاش طفولته ومرحلة شبابه؟ مساره الدراسي والوظيفي؟

بيرام الداه اعبيدأنا مجدد ديني واجتماعي وسياسي كما أنني أيضا مجدد للعقليات ومدافع عن حقوق الإنسان. باختصار يمكن القول بأنني رجل سياسي لدي مشروع حقوقي وسياسي وفكري يتسم بالقطيعة مع ما كان سائدا سياسيا وحقوقيا وفكريا واجتماعيا في المجتمع الموريتاني.

لا أعرف بالضبط تاريخ ميلادي، فأنا لم أولد في مركز طبي ولم يكن هناك أي حضور طبي لميلادي حتى أني لم أولد في منزل ثابت. ولدت في حي متنقل من الحراطين والعبيد في منطقة شمامه التابعة لمدينة روصو قرب مدينة جدر المحكن الحالية، عند حقول « اكريع الشوك ».

كان هذا الحي حينها يتنقل سواء داخل الأراضي الموريتانية أو السنغالية بحثا عن المراعي للحيوانات وأيضا بحسب المواسم الزراعية، فتارة نزرع أرضنا على الضفة الموريتانية في شمامه وتارة نقطع البحر لزراعة أرضنا الأخرى على الجانب السنغالي ذات الرمال البيضاء في الخريف (جيري).

نسكن أحيانا في خيام وأحيانا أخرى في أعرشة مصنوعة من أعمدة خشبية ما نلبث أن نغادرها أيضا معتمدين على خيمنا. بالنسبة لي ولدت تحت خيمة، حيث لم يكن متاحا لوالدتي أي نوع من الدعم أو الرعاية الصحية باستثناء العون الذي تقدمه نسوة من الحي يطلق عليهن « الكباظات » ويلعبن دور القابلات على الرغم من أنهن لم يستفدن من أي تكوين في المجال من طرف أية هيئة صحية.

ليس هناك من يكتب ولا من توكل إليه مهمة تدوين تاريخ الميلاد، حتى أنه لا توجد هناك أدوات معقمة لقطع الحبل السري، حيث كانوا يتخيرون من بين المحار المتاح واحدة ليقطعوا بها حبل المولود عند ولادته.

ولدت في تلك الظروف، وبحسب بعض التحريات قد يكون الميلاد حصل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 1965، حيث يتذكر الأهالي بأنني ولدت خلال موسم الخريف الذي يتصادف في تلك الفترة مع الأشهر الأخيرة من السنة.

عشت طفولتي متنقلا مع الأسرة خلف المراعي، إذ كنا نمتلك غنما وبقرا وعددا من الخيول، إضافة إلى حقلينا المذكورين سابقا. وغني عن القول أننا نعتمد في معيشتنا فقط على ما تجود به تلك الحيوانات وما نحصده من زراعتنا.

أتذكر وأنا صغير أصدقاء والدي من سكان المنطقة من الولوف وإفلان، وقد تمت تسميتي على بعضهم مثل « جيبي جاه » الذي هو زعيم وأمير من الفلان ونظرا لصداقته مع والدي حضر يوم عقيقتي حاملا معه مدفعا وفرسا وتمت تسميتي عليه هو أيضا. وهناك أيضا صديق حميم لوالدي من الولوف يدعى بوكا صار مزرعته محاذية لمزرعتنا ويسكن في دكانا « Dagana » على الضفة السنغالية المقابلة لنا، وهو من عائلة عريقة في منطقة الوالو «Walo» ينتخب أحد أفرادها عمدة لمدينة دكانا وفيما بعد أصبح بعض أبنائه وزراء في الحكومات السنغالية، بما في ذلك حكومة ماكي صال الحالية.

لقد كانت لدى والدي علاقات مع بعض الأسر ذات الثقل في السنغال وفي موريتانيا. كان والدي وأيضا والدتي وأسرتها يتمتعون بعلاقات متميزة مع بعض أعيان و رموز الإقطاعيات الدينية والدهرية الذين يزوروننا من حين لآخر من مختلف مناطق ولاية الترارزة، سواء أثناء الفترة التي كنا خلالها متنقلين أو بعد أن قررنا التحضر منذ سنة 1971 في قرية جدر المحكن (أو دكانت موريتانيا).

وكنت وأنا صغير أراقب اجتماعات الزوار بوالدي ووالدتي وأحضر بعضها، فأتعرف من خلال ذلك على الضيوف وعلى التراتبية الاجتماعية. وكانت والدتي أماته منت أحمدو سالم ولد المختار الآباني، مطلعة على الكثير من المعلومات نظرا لانتمائها إلى أسرة معروفة من مريدي أسرة صوفية كبيرة في المنطقة. وكانت لدي أخوات عديدات أكبر مني باستثناء الصغرى منهن. لذلك يمكن القول بأنني عشت طفولة مدللة بحسب مستوانا حينها، خصوصا وأنني كنت محاطا بالكثير من العناية، فمن بين ذكريات الطفولة أن المدرسة الابتدائية تبعد عنا حوالي كيلوميترين كان على أن أقطعهما ذهابا وإيابا مرتين في اليوم وكانت والدتي رحمة الله عليها تصر على أن تحمل إلي اللبن الرائب مضافا إليه السكر، لأشرب منه خلال استراحة العاشرة صباحا، رغم بعد المسافة.

أتذكر أيضا أننا عشنا منذ سنة 70 ظروفا صعبة بفعل الجفاف الذي قضى على الحيوانات وأضعف مردود الزراعة. ينضاف إلى ذلك أن الوالد لم يعد بسبب الشيخوخة قادرا على مواصلة تجارته في دكار مما تسبب في إفلاس الحوانيت التي كان يملكها، فتدهور وضعنا المعيشي لدرجة أننا نمكث أحيانا يوما أو يومين أو حتى ثلاثة أيام من دون أن نطبخ أي طعام في المنزل، غير أن ذلك لم يدفع أي منا إلى اللجوء إلى ما لدى الجيران بل نكتفي بانتظار الفرج من الله الذي يحيطنا بلطفه ورعايته.

إذا يمكن القول بأنني منذ 70 و 71 عشت طفولة صعبة من حيث الظروف المادية الذي يطبعها الفقر الشديد.

عندما بلغت سن الثامنة تم اكتتابي في المدرسة سنة 1973، وكنت دائما من بين التلاميذ المجتهدين والمتفوقين، حيث أنني لم أرسب في أي من سنوات دراستي مما جعلني أنتقل إلى إعدادية روصو سنة 1979، لأبدأ في إدراك بعض الأمور. وحتى قبل ذلك في سنة 1975، أتذكر أن بعض جيراننا يمتلكون عبيدا يخدمونهم ويسهرون على العناية بخيامهم، كما أن زوارنا من الحضرات الصوفية والمشايخ الدهريين يكونون محاطين بعبيدهم وبفنانيهم وبحشمهم.

وكانت والدتي تهتم بالمستضعفين في القرية ممن لا يجدون قوة يومهم، لتطعمهم معنا ولتجعلهم ينامون معنا على فراش واحد، بينما يأنف جيراننا من مجالستهم أو الأكل معهم وأذكر أن عبدا لأسرة من الزوايا جاءنا ذات يوم من أيام 1975 جوعانا فأطعمته الوالدة ونام. وبينما هو نائم جاء أحد أسياده يبحث عنه وبدأ يضربه وهو مازال نائما وعندما أفاق هرب أمام سيده. وحين أبديت استغرابي من عدم دفاعه عن نفسه رغم كونه أقوى عضليا من سيده، أجابتني الوالدة بأنه مقيد وحين جادلتها بأنني لم ألاحظ قيده شرحت لي بأنه عبد وبأنه حين يخالف أوامر سيده يصبح آبقا أو حتى كافرا مما يعرضه لنار جهنم.

شرحت لي أن ذلك هو التفسير السائد لدى المتحدثين باسم الدين وأنه حتى لو تمرد العبد ضاربا عرض الحائط بالوعيد فإن الجميع سيقفون إلى جانب السيد ويمسكون العبد معه ويشدوا وثاقه ويضربونه، انطلاقا من كونه خرج عن الدين حين أبق على سيده. وبالتالي أصبح العبد مقيدا من تلقاء نفسه ومن الأفضل له أن يتحمل ضرب سيده النحيف على أن يتمرد فيشارك الجميع في ضربه ومن بينهم من هم أقوى منه.

مساء ذلك اليوم، انتحى والدي جانبا بعد صلاة المغرب واستدعاني ليفاجئني بالسؤال: أتدري لماذا سجلتك في المدرسة؟  فأجبته بأن الهدف من دخولي المدرسة هو أن أتعلم لأصبح مهما، فقال لي أريدك أن تدرس الكتب الدينية التي تشرع العبودية وكذلك القوانين الفرنسية المتعلقة بهذا الموضوع وسأكشف لك عن سبب ذلك.

وعندها أوضح لي علاقة أسرتنا بالعبودية قائلا: لقد تم سبي والدتي في حروب الساموري توري »Samory Toure »  ضد الفرنسيين والتي أفتى خلالها بجواز سبي أفراد القبائل التي لا تنضم إليه في حربه المقدسة من أجل بيعهم لتمويل الجهاد. خلال تلك الحروب تم سبي جدتك كاتافانا تراوري « Katafana Traoré »  من قرية تسمى بلبل «Boulboul» في منطقة خاي «Khatry» بمالي من طرف الساموري توري وبيعها في سوق النخاسة لرجل ثري من بيضان « إديرك ». وبعد فترة أثناء حملها بي، أصيب سيدها بمرض استدعى منه زيارة أحد المشايخ بحثا عن الرقية، فنصحه هذا الشيخ بعد الاستخارة بأن يخرج صدقة ثمينة وعندما استفسره حول طبيعة هذه الصدقة اقترح الشيخ عليه أن يعتق رقبة مؤمنة، فقال له كيف ولا أملك سوى أمة واحدة وأنا في أمس الحاجة إليها وهي في مرحلة الحمل، عندها اقترح عليه أن يعتق جنينها ففعل ذلك، ولذلك السبب ولدت حرا.

وأضاف والدي بكثير من الأسى: لدي أسبابي للشك في نوايا المشرعين للعبودية والمفسرين للنصوص الدينية، فالساموري توري أصدر فتواه التي كانت سببا في نكبة أمي وأسرتها بصفته خليفة للمسلمين في غرب إفريقيا وقائد الجهاد ضد الفرنسيين، كما أن رجل الدين الذي أرسلتني والدتي إليه للدراسة لمدة 10 سنوات، قد ضيع علي فرصة التعلم ومارس علي العبودية، ذلك أنه بعد عودتي من عنده كلفت أمي شخصا من قريتنا باختبار معلوماتي لتكتشف بأن طفولتي ضاعت في تلبية رغبات رجل دين كانت تدفع له بسخاء مما يخصصه لها سيدها الثري من المال.

وتابع الوالد: بعد ذلك وعندما بلغت سن الرشد توجهت إلى السنغال لممارسة التجارة ثم عدت إلى موريتانيا وتزوجت من أمة ورزقت منها بولدين. وحين قررت الذهاب بهم معي إلى السنغال رفض أسيادهم ذلك، فاضطررت للدخول معهم في نزاع قضائي، حيث حكم قاضي المسلمين في روصو لصالحهم في مرحلة أولى ثم صدق الحاكم الفرنسي على ذلك بحجة عدم تدخلهم في القوانين الإسلامية وتم بيع زوجتي وولداي من مسترقيهم.

منذ ذلك الحين –يضيف الوالد- أصبحت مناهضا للعبودية وبدأت أشك في أن الأمر يتعلق باجتهادات بشرية وليس بأوامر ربانية، غير أن المستوى التعليمي الذي وصلت إليه لم يكن يسمح لي بالتأكد من الشكوك التي تراودني حول هذا الموضوع، لذلك أرسلتك إلى المدرسة لتتعلم كل شيء على صلة بموضوع العبودية، سواء تعلق الأمر بالعلوم الإسلامية أو بالقوانين الفرنسية، حتى تصبح قادرا على مواجهة العبودية وإظهار حقيقتها.

تعهدت لوالدي حينها وأنا ابن عشر سنين، بأنني سأبذل قصارى جهدي وذلك ما فعلته، حيث دأبت على محاولة الإحاطة بأي نص أو معلومة أو خبر أو حادثة تتعلق بالعبودية.

بعد تلك الحادثة وتلكئ الفرنسيين عن دعم والدي في حادثة انتزاع زوجته وولديه منه بالرغم من « مهمة نشر الحضارة » التي يزعمون بأنهم جاؤوا من أجلها، عاد محبطا إلى دكار خصوصا وأنه سبق وشاهد محاربتهم للعبودية في البلديات السنغالية الأربعة (Saint Louis, Rufisque, Dakar, Gorée)؛ واتخذ قرارا بعدم الزواج مستقبلا ممن تمارس عليه العبودية ليعود في عطلته الموالية مع شريكه في الحانوت أحمد ولد آباني للزواج من والدتي أماته منت أحمدو سالم ولد المختار الآباني.

بعد انتقالي إلى روصو، بدأت الاهتمام بالشأن العام، حيث شكلت سنة 1982 مع زملاء في الإعدادية حركة طلابية مناضلة تدعى الحركة الوطنية الإفريقية، وهي حركة جامعة تضع العبودية والعنصرية في صميم اهتماماتها.

أمضيت فترة شبابي في النضالات المحلية في منطقة جدر المحكن والمناطق المحاذية لها، ونضالاتي معروفة من طرف كل من عاصروني في الابتدائية والإعدادية والثانوية، حيث يعرفونني حينها مدافعا عن نفس المواقف التي مازلت أدافع عنها اليوم.

أتذكر أنني أصبت بمرض منعني من متابعة الدراسة منذ بداية السنة الخامسة الثانوية، غير أنني استطعت إجراء الامتحان والتجاوز إلى السنة السادسة إلا أن المرض عاودني في العطلة الصيفية ولازمني طوال السنة الدراسية مما منعني من متابعة الدروس، لكنني شاركت في مسابقة البكالوريا ونجحت.

بعد نجاحي في البكالوريا، انتقلت إلى نواكشوط لمواصلة دراستي الجامعية بكلية الحقوق الموجودة آنذاك في مقاطعة لكصر. ونظرا لأنني أسكن في مقاطعة الميناء البعيدة عن مكان الدراسة لدى أسرة من الأهل، ولعجزي عن توفير المصروف اليومي الضروري للنقل على قلته، كان علي أن أتوقف عن الدراسة وأبدأ بالبحث عن العمل.

شاركت سنة 1987 في امتحان كتاب الضبط ونجحت فيه متفوقا وبدأت العمل في نواكشوط، غير أنني رأيت في الإعلان عن الانتخابات البلديات الريفية لسنة 1988، فرصة لمنازلة الإقطاعية المحلية في جدر المحكن. وتكمن المفارقة في أن خصمي حينها كان قياديا في حركة الحر على المستوى الوطني، غير أنه على المستوى المحلي كان ممثلا للإقطاعية بصفته أحد ملاك العبيد والرافضين لانعتاقهم، مما يكشف عن جانب من القصور الذي يعتري الحركات التي تتشكل في العاصمة من دون الاكتراث لحقيقة الأوضاع في الداخل.

قمت حينها بتعبئة واسعة من أجل إعداد لائحة قوية قادرة على منافسة الإقطاع، وكان عمري 22 سنة والقانون يفرض بلوغ 25 سنة لإمكانية الترشح فلجأت إلى طريقة متبعة في تلك الفترة تتمثل في استخراج بطاقة تعريف جديدة تحمل السن المطلوبة، فاستغل الخصم الموضوع وكان حينها يستفيد من الدعم من طرف أطر متنفذين في الدولة يشكلون آنذاك قيادة حركة الحر وهددت السلطات المحلية برفع قضية ضدي أمام العدالة إن لم أنسحب من المنافسة. لم يكتفوا بمنعي من الترشح بل حولوني أيضا إلى محكمة النعمة لإبعادي عن المنطقة.

واصلت عملي بالنعمة إلى أن توفي شخص مقرب من مسعود ولد بلخير  وأراد أسياده أخذ ماله وتفاجأت بأن رئيس المحكمة أصدر حكما لصالح الأسياد فحصلت بيني معه أزمة طلب على إثرها تحويلي عنه، فحولت إلى مدينة نواذيبو التي وصلتها يوم 28 ابريل 1990.

بعد وصولي إلى نواذيبو أسست حركة مناضلة تدعى « أطكَكْ » وهي تسمية تطلق على الخط الجنوبي من ولاية الترارزة المقابل لـ « اذراع » تسببت لي في الكثير من المتاعب بعد أن أصبحت قوة شعبية ونحن حينها مقبلون على انتخابات 1990 البلدية التي يتوقع للحركة أن تلعب دورا مهما خلالها.

ذات يوم استدعاني وكيل الجمهورية في المحكمة التي أعمل بها -يوجد حاليا في منصب سام بقطاع العدالة- وأخبرني بأن لديه أوامر من نواكشوط بإرسالي مكبلا بالقيود إلى إدارة الأمن هناك، وأنه لا يريد أن يفعل ذلك لمعرفته بالمجموعة التي تقف خلف الوشاية بي نظرا لمكانتي السياسية، وبالتالي فإنه طلب منهم مهلة لوضعي تحت المراقبة على أن يوافيهم في المستقبل القريب بتقرير مكتمل عن وضعيتي.

وبعد فترة طلب مني وكيل الجمهورية الذهاب إلى نواكشوط لمقابلة وزير العدل أو الأمين العام بطلب منه، وعندما قدمني الكاتب له على أنني بيرام الداه اعبيد لم يصدقه بل طلب مني مغادرة مكتبه. وبعد أن أقنعه كاتبه الخاص بأنني أنا هو بيرام خاطبني قائلا: أنت طفل صغير ملامحك بريئة لا يمكن أن أصدق سيل الاتهامات الموجهة ضدك، سأخبر السلطات المعنية بأنك بريء من كل تلك التهم الخطيرة لأنها لا يمكن أن تصدر من شخص مثلك وفي سنك .

بعد الإعلان عن انطلاقة المسار الديمقراطي وبدء الاستعدادات لتأسيس الحزب الحاكم، تم استدعائي من طرف وزارة الداخلية عبر أمانتها العامة. وأخبرني الوزير أحمد ولد منيه رحمة الله عليه بأن لديهم 21 اسما مقترحا لتأسيس الحزب الجمهوري وأنه تم اقتراحي رغم صغر سني لأكون من بينهم، فاعتذرت بسبب كوني معارضا للنظام ومكاني هو المعارضة وإن كانت لم تؤسس حتى الآن حزبا.

تفاجأ الوزير من قراري وحاول ثنيي بعدة وسائل من بينها القرابة غير أنني تمسكت برأيي. وحين عدت إلى نواذيبو بعد ذلك الاستدعاء الذي كانت السلطات هناك على علم به، تلقيت زيارات مجاملة ممن لم يدخلوا مكتبي سابقا، لكن حين أطلعتهم على النتيجة انفضوا من حولي جميعا.

وبعد تأسيس اتحاد القوى الديمقراطية وانتسابي له، شعرت بسرعة بالحضور القوي لأشكال الهيمنة التي نكافح من أجل محاربتها، خصوصا بعد تحوله إلى اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد، مما جعلني أنسحب منه مبكرا.

كنت في تلك الأثناء قد حصلت على شهادة المتريز في القانون من جامعة نواكشوط سنة 2000 وأواصل عملي بصفتي كاتب ضبط في محكمة نواذيبو، إلى أن عدت ذات يوم من عطلة سنوية فوجدت قاضيا جديدا قد حول إلى محكمتنا وأصبح متعطشا للقائي بفعل الانطباعات التي سمع عني وخصوصا بسبب لقب « الرئيس » الذي يطلقه البعض علي حين يأتون للسؤال عني.

وبعد مشادات قوية معه، قررت مغادرة نواذيبو، وتوجهت إلى السنغال حيث التحقت بجامعة الشيخ آنت ديوب لأحصل منها على شهادة الدروس المعمقة في مجال العبودية وبعدها سجلت في مشروع الدكتوراه، ثم عدت إلى نواكشوط حيث التقيت ببوبكر ولد مسعود الذي طلب مني الانضمام إلى نجدة العبيد التي ناضلت في صفوفها إلى أن قررت تأسيس حركة إيرا.

أمضيت فترة طويلة في نجدة العبيد كنا خلالها أنا وبوبكر الفاعلين الأساسيين فيها، لكن لاحظت أن كل قضايا العبودية التي نكشفها، يتم تجاهلها وتصورها على أنها مجرد دعايات مغرضة. لفت انتباهه إلى ضرورة تغيير المنهجية باعتبار أن الحركة النخبوية لا تصلح للنضال الجماهيري، فحضورنا نحن الاثنان فقط مقابل إقطاعيات وقبائل لن يغير من الأمر شيئا، حتى أن أنصار الاستعباديين يهاجموننا أحيانا ويضعوننا في موقف ضعف أمام السلطات، التي ترانا من دون سند ولا ظهير، فتختار أن ترضي الطرف الأقوى بامتلاكه للضغط الجماهيري وتتركنا نجر أذيال الخيبة.

لذلك كنت أصر على تأسيس حركة جماهيرية، أي حركة حقوق مدنية قادرة على إسنادنا أمام السلطات والإقطاعيين الذين يهددوننا ويتجاسرون علينا. كما أنني كنت أجادله في عبثية محاربة العبودية من دون توجيه السهام باتجاه المنظومة الفقهية التي تحتضن وتشرع العبودية وتضفي عليها القداسة.

كان بوبكر يرد علي بأن بناءنا للظهير الجماهيري ينطوي على خطر حرب أهلية وبأن نقد المنظومة الفقهية يمكن أن يؤدي إلى إخراجنا من الملة والقضاء علينا فيما يشبه الانتحار السياسي، أما تدويل الموضوع بدون كياسة بالنسبة له فقد يكون بمثابة إعطاء فرصة للنظام لربطنا باليهود والنصارى والمستعمر مما سيمكنه من عزلنا عن الرأي العام الوطني.

وأمام استمرار تلك التباينات حول المنهجية، قررت تأسيس حركة بتلك المواصفات، إذ كان من الضروري استئناف التظاهر ضد العبودية الذي توقف منذ سنة 1979 حين نظمت حركة الحر الناشئة أول تظاهرة ضد العبودية في موريتانيا، فكان على حركة إيرا أن تقود المظاهرات الثانية ضد العبودية يوم 13 دجمبر 2010 بعد سنتين من تأسيسها، أمام مفوض وحاكم عرفات، حيث تعرضنا للقمع خلالها وللاعتقال وللمحاكمة.

كانت محاكمتنا تلك أول محاكمة يتبنى خلالها المتهمون الأعمال التي قاموا بها، حيث لم نوافق على الخطة الأولية لعمداء المحامين التي جربوها سابقا مع الحركات السرية لتخفيف الأحكام، وفضلنا الاعتراف بأننا حركة قررت مواجهة الدولة والمجتمع وأننا نتحمل مسؤولية المواجهة التي خضناها مع الشرطة يوم 13 دجمبر باعتبارها أضعف الإيمان.

ثم إننا حولنا المحاكمة إلى منبر لمحاكمة النظام وكشف تآمره مع الاستعباديين، حيث تبنينا خطابا هجوميا ضد المحكمة والدولة والمجتمع. وكان لذلك الخطاب صدى كبير في الداخل والخارج، إذ أنه أسقط الفبركة التي أشرف عليها وزير الاتصال آنذاك حمدي ولد المحجوب من أجل إظهار « أخدم » (إماء) الاطارة بالبنك المركزي أملمنين منت بكار فال في التلفزيون تتلقين تكريم أسيادهن وتبجيلهم وإظهارنا نحن كمعتدين على الشرطة وعلى لحمة الوطن. وتراجعت الحكومة عن تبني تلك الخطة وقامت بسجن منت بكار فال ومحاكمتها والحكم عليها بستة أشهر قضت منها تسعة أيام في السجن.

فكان ذلك حدثا مدويا هو الأول من نوعه في تاريخ البلاد حيث لم تستطع أي من الحركات أو المنظمات السابقة أن تنجح في وضع أحد الاستعباديين في السجن كما نجحنا في ذلك خلال محاكمتنا في يناير 2011.

وتسبب سجن منت بكار فال  في انتشار حالة من الهلع في صفوف الاستعباديين والإقطاعيين وبدأ تحرير العبيد وبرزت إيرا كحركة جماهيرية تمتلك جناحا شبابيا يدعى لجنة السلام للدفاع عن بيرام، تصدت جسديا لأمثال المعتدين الذين كانوا يستهدفونني أنا وبوبكر في السابق ثم استهدفوني فيما بعد بشكل شخصي بعد تأسيس إيرا، ونجح شبابنا في ردعهم بحيث أصبحنا حين نقدم شكوى للشرطة لا نسجل أي حضور للدعم القبلي الإقطاعي الذي كان في السابق جاهزا للانقضاض علينا والتشويش على السلطات حتى لا تقوم بعملها كما ينبغي. كما كان لقوة حضورنا الجماهيري وتحمس شبابنا واستعداده لرد الصاع صاعين دور بارز في تحقيق هذا الردع.

كما تم أيضا تفعيل الظهير الدولي، حين بدأت البرلمانات والمنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام في العالم الحر، تتلقف مواقفنا وتصريحاتنا، فانطلق المارد من قمقمه ولم يبق لنا سوى تسديد الضربة القاضية للمنظومة الفقهية التي تشرعن العبودية وذلك ما قمنا به يوم 27 ابريل 2012 بحرقنا لكتب النخاسة الذي كان بالفعل تمردا ضد المنظومة القائمة ولفرض المراجعة والنقاش على المجتمع والدولة وحتى على المجتمع الدولي.

ويمكن القول أيضا بأن عملية حرق الكتب جاءت تتويجا لما تعهدت به لوالدي رحمة الله عليه من عدم التهاون مع العبودية ومع الكتب التي استخدمت ضد والدته وزوجته وأبنائه بما حوته من أحكام ظالمة مفترية على الدين.

مجابات: منذ متى بدأ اهتمام بيرام الداه اعبيد بالشأن العام وبالشأن السياسي على وجه الخصوص؟ هل أنتم من بين من فرضت عليهم السياسة نفسها في وقت مبكر من العمر، أم أن أحداثا معينة لفتت انتباهكم إلى هذا المجال؟

بيرام الداه اعبيد: بدأ اهتمامي بالشأن العام مبكرا –كما ذكرت لكم- بعد حادثة العبودية تلك وما كشف لي عنه والدي من تاريخ الأسرة مع هذه الجريمة المقيتة. بدأت منذ ذلك الحين أمعن النظر في كل شيء له علاقة بالظلم، لأميزه وأستنكره. لا أتوفر بالطبع حينها على الآليات الفكرية ولا المعلومات التي تمكنني من إدراك الأبعاد كاملة غير أنني على الأقل أستنكره بقلبي.

كان ذلك خلال المرحلة الابتدائية، أما بعد تجاوزي إلى الإعدادية فقد بدأت أتأثر بكبار كتاب الزنوج La négritude أمثال سينغور وإميل سيزار وديما وغيرهم من النخبة المنشغلة بالنهوض بالسود عبر العالم سواء في الولايات المتحدة أو في إفريقيا وجزر الكاريبي وفرنسا بالأخص.

انشغلت حينها مع بعض زملائي في ثانوية روصو بالقيام بمطالعة مكثفة لفكر تلك النخبة خلال السنوات من 1980 إلى 1984، وشكلنا –كما ذكرت لكم- الحركة الوطنية الإفريقية، التي هي حركة شبابية أسسناها كتعبير عن الإحساس بعمق الجراح التي تشعر بها الشعوب الإفريقية.

تواصل ذلك العمل النضالي وتصاعد بمناسبة الإعلان عن انتخابات البلديات الريفية سنة 1988، حين قررت خوض المنافسة الانتخابية، بدافع من الشعور بثقل وطأة معاناة سكان منطقة جدر المحكن والمناطق المحاذية لها نتيجة تآمر البيروقراطية عليها مع الجيش ومع النخب التي تدعي الدفاع عنها حينها بما في ذلك حركة الحر التي تواجهنا معها آنذاك؛ وأيضا بدافع من الوعي بثقل تاريخ الاضطهاد الذي عاشه الأفارقة نتيجة الاستعمار والعبودية الثلاثية بما فيها العبودية المشرقية من طرف العرب وغيرهم من الآسيويين والعبودية البينية فيما بين الأفارقة أنفسهم والتي كنا على احتكاك مباشر معها في مناطق شمامه وروصو.

إذا كما ترون فالسياسة فرضت نفسها علي في وقت مبكر، كما أن هناك أحداثا معينة أيضا لفتت انتباهي إليها مثل وضعية المنطقة التي أسكن فيها وقوة السحق الذي تمارسه نخب نواكشوط لسكان الريف، إضافة إلى حجم الضيم الذي وقع الأفارقة ضحيته من مستعبديهم سواء من طرف الدول الاستعمارية أو المشرقية (العرب والآسيويين) أو من طرف شيوخهم المحليين.

 شعرت بهذا الضيم الثلاثي مبكرا وأنا في الإعدادية، ومن خلال مطالعاتي ومتابعتي للكثير من الأحداث التاريخية ولحركة التاريخ بشكل عام، توصلت إلى استنتاج أن تأثير هذا الثالوث ما يزال ضاغطا بصفة مباشرة أو غير مباشرة على حياة شعوبنا.

لذلك ما إن أعلن عن البلديات الريفية حتى قررت أنه على السكان أن يأخذوا زمام أمورهم ويتحرروا من وصاية نخب نواكشوط التي لا تتقاطع معهم في أي شيء والتي أفرزها واقع الهيمنة المحلية التليد: نخبة من العبيد، نخبة من الولوف، نخبة من البيظان، نخبة من السونونكي، هي من تمتلك زمام الأمور أما السواد الأعظم من السكان من باقي التراتبيات الاجتماعية فعليه أن يمتثل لإرادة تلك النخب. كان ذلك الواقع البائس هو ما دفعني في مرحلة مبكرة من حياتي إلى الدخول في ذلك الصراع مع تلك النخب.

مقالات ذات صلة

ابرز قصص مجبات على فيسبوك