الأزمة الاقتصادية والمالية: ما بين الوباء الظرفي والوباء الهيكلي

بقلم أ. مصطفى أحمد علي

دكتور دولة. أستاذ جامعي في المالية العامة

خبير لدى المنظمات الدولية

يقترب محمد ولد الشيخ الغزواني من نهاية السنة الثانية من مأموريته الأولى كرئيس الجمهورية. ولقد تولى منصبه في ظروف دولية صعبة زادت حدتها جائحة الكوفيد-19. لذا تركزت جهود الدولة على الخروج من الأزمة الوبائية وسنت برنامج إقلاع اقتصادي ومالي لمواجهة المتطلبات الملحة في جميع القطاعات.

ومن أجل تخفيف وطأة الوباء، تبنت السلطات في مايو2020 خطة استراتيجية تمول بمبالغ مالية تناهز 8.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي الحالي وتمتد على سنتين. وتتضمن إجراءات منها إنشاء صندوق لمساعدة الطبقات ذات الدخل الضعيف، وإلغاء الضرائب على المواد الأساسية.  ومنذ بداية العام الحالي استفادت الشركات الصغيرة والمتوسطة من القروض المدعومة التي تضمنها الدولة وذلك بالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية.

ورغم ذلك البرنامج، ونحن في منتصف سنة 2021، مازالت مؤشرات الاقتصاد الكلي للبلاد ترفرف بالأحمر بدافع الارتفاع الهائل للمديونية وتدني مستوى المعاش وارتفاع الأسعار والعجز في ميزانية الدولة وفي الميزانية التجارية وبصفة عامة في الحسابات الوطنية.

والسبب المباشر هو أن الدولة واجهت عدة إشكاليات كانت عائقا أمام التسيير العادي للاقتصاد. ومنها اتساع عجز الحساب الجاري في عام 2020 بدافع تدهور العجز التجاري من 8 إلى حوالي 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وأدى الانخفاض في الاستثمار الأجنبي المباشر إلى حاجة ملحة للتمويل العام الدولي.

وعكر ذلك الوضع ضعف الأداء في التصدير الذي انعكس على الاستثمار. فانخفضت حصة الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي من 45٪ إلى حوالي 40٪ في نفس السنة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى توقف الاستثمار الأجنبي، الذي يمثل الثلث، وكذلك الاستثمار العام في البنية التحتية. وارتفعت تكاليف الواردات الغذائية وفاتورة النفط وتزامن ذلك مع انخفاض الصادرات وتقلص مشتريات المعدات.

كما واجهت الأسر ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية المستوردة (أرز، قمح، إلخ..) بسبب معضلات الإمداد وانخفاض الأوقية على الرغم من تدخلات البنك المركزي للحفاظ على قيمتها. ولا شك أن التصدير سيبقى دون المستوى الذي كان عليه قبل الأزمة. كما أن التأجيل لتكاليف حقل الغاز البحري لسنة 2023 سينعكس بشكل سلبي على الميزانية.

تمويل الوباء الظرفي

ولكن وإن كان الوضع الدولي صعبًا على جميع البلدان بمستويات مختلفة في الخطورة، فإن الدولة الموريتانية قد تمتعت بدعم مالي دولي ضخم وموارد ذاتية معتبرة خلال الفترة الممتدة من 2019 إلى يومنا هذا. أي خلال الفترة الكاملة التي تشتكي فيها الدولة من الصعوبات المذكورة.

وكان التأثير الخطير المتوقع للوباء على نمو البلد وقدرة الدولة على تسديد ديونها محركا أساسيا في الدعم المالي الخارق الذي تلقته الدولة منذ سنتين. وعلى الرغم من أن مدخرات الدولة مثلت 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن الهيئات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، بنك التنمية الآسيوي، الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي…) منحت تمويلا عادل -في أواخر سنة 2020 وبداية السنة الجارية- 4.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ولقد أسديت الدولة في الفترة ما قبل ذلك (2017- 2020) 193 مليون دولار أمريكي وذلك في إطار « التسهيل الائتماني الممدد » لصندوق النقد الدولي وتم تعليق « الضبط المالي » الجاري للميزانية خلال ذلك البرنامج التسهيلي. فكانت المساعدات الطارئة تأتي من صندوق النقد الدولي لتغطية ثلث الاحتياجات.

 وتجب الإشارة إلى أن الأرقام الرسمية للمديونية لا تقدم بصفة كاملة ولا بالنسب الحقيقية لها في الناتج الداخلي الخام. حيث أن تلك النسب تتجاوزا بكثير نسبة 55 % المعلنة رسميا. فتناهز ما يفوق 70% إذا ما احتسبنا الدين السلبي (يقيد في محاسبة المسؤولية للدولة) الذي يمثل 18% من الناتج الداخلي الخام. وهو دين لا تحتسبه الدولة في مجموعة الديون الحيوية التي تخبر عنها عموما. وأصل ذلك الدين الذي يتجاوز اليوم مليار دولار وديعة مالية من الدولة الكويتية ومقدارها الأصلي 50 مليون دولار قدمتها لموريتانيا في عام 1973 للمساندة في انتقالها من نظام الفرنك الفرنسي-الإفريقي إلى العملة الوطنية – الأوقية. ولم تسدد الدولة المبلغ منذ ذلك التاريخ! ومع تراكم الفوائد تضاعف الدين 20 مرة ووصل اليوم إلى ما يفوق المليار دولار!

وللسرد لا للحصر فهذه بعض الأموال التي تحصلت عليها الدولة في نطاق تلك المديونية خلال سنة 2020:

  • إنفاق صندوق النقد الدولي 130 مليون دولار (95.680 مليون وحدة حقوق سحب خاصة) في إطار التسهيل الائتماني السريع لمساعدة موريتانيا على مواجهة جائحة كوفيد-19.
  • 24 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي،
  • 5.2 مليون دولار من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA)،
  • 23 مليون دولار أمريكي من البنك الدولي كمخصصات مالية إضافية،
  • 33 مليون دولار لموريتانيا من صندوق التضامن الإسلامي للمساعدة في التعامل مع فيروس كورونا،
  • 3.6 مليون وحدة حسابية (وحدة حساب بنك التنمية الآسيوي تساوي حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي،) حوالي 1.4 دولار أمريكي اعتبارًا من 24/7/2020) في شكل قروض قطاعية من موارد صندوق التنمية الأفريقي،
  • 133 مليون دولار على شكل ثلاثة تبرعات من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA)،
  • 9 ملايين يورو كمساعدات من الاتحاد الأوروبي في عام 2020 لمشاريع إنسانية في موريتانيا، وسيدعم جزء من تمويلها أيضًا مكافحة جائحة فيروس كورونا،
  • 13 مليون يورو (حوالي 535 مليون أوقية جديدة) حشدها فريق أوروبا الذي يدعم خطة الاستجابة الموريتانية لكوفيد-19.

يضاف إلى ذلك الحصة التي ستحصل عليها موريتانيا من دعم الموازنة البالغ 284.8 مليون دولار أمريكي الذي أقره مجلس إدارة بنك التنمية الأفريقي يوم الأربعاء 22 يوليو2020 في أبيدجان، لدعم جهود دول منطقة الساحل G5) بوركينا فاسو، مالي، موريتانيا، النيجر وتشاد) في تنفيذ خطط الاستجابة لوباء Covid-19 والانتعاش الاقتصادي.

بالإضافة إلى هذه المليارات، تلقت موريتانيا مساعدات طبية من عدة دول (الصين، المغرب …).

إذا اعتبرنا فقط التمويل الذي حصلت عليه الدولة منذ إعلان الوباء، أي فبراير – مارس 2020 (دون اعتبار ما حصلت عليه بعد تلك الفترة وهو أيضا معتبر) فهذه ملايين بل مليارات من الدولار يمكننا أن نضيف إليها ملياري إماراتي للاستثمار وكذلك موارد الدولة الخاصة وعائدات صادراتها من الموارد الطبيعية و … القروض الثنائية…الخ.

وحصلت أيضا موريتانيا على أموال أخرى كبيرة وإعانات ملموسة خلال السنة الجارية ولكن لم يكن لجوء الدولة إلى المديونية حلا لمعالجة الأزمة بل أثقل كاهلها بصفة ملحوظة ولم يساهم لا في نمو البلاد ولا حتى في تسديدها لا فائضا ولا أصلا.

  تلقت إذا موريتانيا، منذ اندلاع الوباء، مساعدات مالية دولية هائلة تثير التساؤل.

أين كل هذه المبالغ الهائلة التي منحت بالدولارات وباليورو وغيرها من الوحدات الحسابية التي تحصلت عليها موريتانيا في الآونة الأخيرة؟

ماذا فعلت الدولة الموريتانية بهذا النهر المتدفق من الإعانات والقروض المتنوعة؟ لماذا لم تساعد كل هذه الأموال للتغلب على الأزمة؟

الجواب على هذه الأسئلة يكمن في أن الدولة الموريتانية وإن عانت من وباء ظرفي (الكوفيد) فإنها تعاني من وباء أخطر منه يكمن في نفسها.  وهو وباء مزمن وهيكلي يتمثل في الحكامة السيئة. ولقد شلَ ذلك الوباء الدولة منذ عشرات السنين ومازال يسوس هيكلها ويمتص قوتها وإمكانياتها المالية والاقتصادية.

واستفحل ذلك الوباء الهيكلي واستبان في التسيير السيئ للغاية للشؤون الاقتصادية والمالية للبلاد وفي الإدارة غير المحكمة للموارد الذاتية وتلك المتأتية من المديونية والهبات الدولية، فازدادت الأزمة حدة وتجذرا.

تمويل الوباء الهيكلي

تم تجاهل معايير الكفاءة والخبرة التي كان من المقرر أن تكون لها الأسبقية في التعيينات في المناصب العليا لصالح المحسوبية والانتماء السياسي والقبلي والقرب من الحاكم. ويعني ذلك أن الإدارة بأكملها تخضع للتلاعب السياسي، وتحويلها إلى « مستودع » لعدد كبير من الأفراد الذين لا يستوفون إلا « للمعايير » التي يريدها النظام السياسي.

وهذا يفسر كون الإدارة العامة الموريتانية من أفقر الإدارات في العالم في المؤهلات والخبرات التي دونها لا وجود لاستثمار نافع ولا إنتاج ولا إنتاجية. ويزيد الأمر تعكرا الفساد الإداري السائد.

وبالفعل فإن جميع المناصب الرئيسية التي يجب أن تكون القلب النابض، والحكم المركزي للإدارة، والتسيير والإشراف، والتصميم والتنفيذ، والمراقبة والتقييم، يتم تعيينها من قبل السلطة التقديرية.

 فأسندت القروض لإدارة فاشلة ومشاريع عقيمة ليست لها جدوى ولا منفعة.

إن القروض لا تؤخذ إلا بعزيمة من المقترض أن يرجعها بعد أن استفاد منها.  وعلى مستوى الدولة لا تكمن تلك المنفعة إلا بالخضوع لشروط صارمة منها:

  • تخصيص القروض، صحبة الموارد الذاتية للدولة، للاستثمارات المنتجة، وتحقيق القيمة المضافة والمكاسب الرأسمالية، وإثراء الدولة (من خلال الضرائب) والأمة من خلال إنشاء الثروة (التي تعود بالمنفعة على المواطن) والمشاركة في التكوين الإجمالي لرأس مال ثابت، كماً ونوعاً، لدعم البنية التحتية للتنمية.
  • ترسيخ إدارة سليمة وشريفة، قانونا وقيما، وتكوينها وانتداب مهارات معتبرة لتنفيذ البرامج والمشاريع التي تمولها القروض وتكون قادرة على إدارتها وإكمالها على أحسن وجه بما يعود بالفائدة على الدولة.

إن الموارد التي يتم الحصول عليها عن طرض      

يق الاقتراض يتم « إلقاؤها » اليوم في مشاريع غير مستدامة وغير منتجة، وعُهد بها إلى أشخاص غير مؤهلين وإلى إدارات غير قادرة على تسييرها.

وهذا ما يرهن بالفعل مستقبل الأجيال القادمة لعشرات السنين.

وعلى مستوي الاقتصاد الهيكلي يلاحظ عدم تنوعه ما جعله معرضا لتقلبات أسعار السلع الأساسية ولا يدخل في رؤية شاملة ومستقبلية لنمو البلاد. وزيادة على ذلك تسلك الدولة تبعية غذائية تصرف من خلالها ملايين الدولارات لاغتنام المواد الغذائية الأساسية وجل المنتجات الزراعية (الغلال والخضر…). و هي عبارة عن هدر المال العام حيث أن الدولة محتِقرة للإمكانيات الزراعية في جنوب البلاد فلا تستثمر فيها كما يتطلب الحال وتفضل اللجوء للقروض الدولية زيادة على مواردها المالية الذاتية لصرفها بدون عقلانية اقتصادية ولا تحكم مالي منطقي.

لكل داء دواء

ما زالت المديونية تمثل خطورة عالية على النمو الاقتصادي للبلاد، لذا وجبت إعادة النظر في هيكلة تلك المديونية وتصنيفها من أجل المعالجة الصارمة لها. فمن الجوانب الإيجابية للتعاطي مع المديونية هو أنها ذات صبغة ميسرة وترجع بالكامل تقريبًا إلى دائنين دوليين من القطاع العام. والملاحظ أيضا أن 18% من هذا الدين مستحق للكويت وهو خاضع للتفاوض.

ومن جهة أخرى فعلى الدولة أن تنتهز فرصة الظروف الإيجابية المتوقعة للسنة الحالية حيث أنه من المرتقب أن يتقلص العجز نسبيا وأن يستقر بذلك عبء الدين. وسيتم التحسن في المداخيل الذاتية للدولة وذلك إثر الآليات التي اعتمدتها الدولة من خلال برنامج منفذ مع الصندوق النقد الدولي متمثل في تحسين إدارة الضرائب وتصفية ملف دافعي الضرائب.

وينبغي أن تتخذ الدولة حوافز جدية من أجل انتعاش الاستثمار الأجنبي المباشر للمساهمة في تغطية العجز، والرفع من احتياطيات النقدية لتغطية الواردات غير الاستخراجية وما يعزز ذلك وجود وديعة مالية بمبلغ 300 مليون دولار أمريكي للمملكة العربية السعودية لدى خزينة الدولة.

وأخيرا يجب خلال السنة الجارية والموالية لها أن ينخفض عجز الحساب الجاري، وخاصة العجز التجاري وذلك بانتعاش مبيعات الأسماك والزيادة في مبيعات الذهب لكي تتم تغطية الزيادة المرتقبة في مشتريات الخدمات المرتبطة بالأنشطة الاستخراجية وإلا ستؤدي إلى تفاقم عجز الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي الذي ناهز 9 % من هذا الأخير العام الماضي (2020).

وتلك الإجراءات تطلب خطة اقتصادية محكمة مصحوبة بتدقيق لأداء ميزانية الدولة ومراجعة المخصصات الثقيلة التي يتم منحها دون أي عقلانية اقتصادية أو مالية. ومن ذلك مراجعة ميزانيتي رئاسة الجمهورية والدفاع التي تستوعب موارد مالية هائلة. وتخصيص هذه الموارد لقطاعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية (التعليم، الزراعة، البحث العلمي، التقنيات الحديثة والتوظيف… إلخ).

وفي الختام…

تلقت الدولة الموريتانية ما بين السنوات الممتدة من 2019 إلى 2021 دعمًا ماليًا كبيرًا ثنائيا ومتعدد الأطراف من المجتمع الدولي. تضاف إليه المعدات والتجهيزات الكثيرة التي تسلمتها الدولة خاصة في القطاع الصحي.

وإذا كانت الدولة الموريتانية قد تعرضت للوباء ككل دول العالم، وحتى بتأثير أقل حدة، فإنها لا تزال تعاني من إعاقات هيكلية كبيرة تجعلها غير قادرة على إدارة مواردها الذاتية على أحسن وجه وكذلك التمويل الدولي المكثف الذي تلقته.

في الواقع، إذا كان الوضع الاقتصادي الذي يمر به البلد جانبيا ولا محالة ظرفيا، فإن الدولة تعاني هي نفسها من اختلالات جوهرية تحيل دون أي سياسات اقتصادية أو مالية قابلة للتطبيق. لذا فإن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها موريتانيا ليست مالية بل إنها بشرية.

 البلاد تقاسي من سوء الحكامة في الموارد الوطنية عبر التفريط فيها وتسييرها غير المحكم والفساد والرشوة واختلاس المال العام وإفلاس المشاريع العامة والتوظيف الدنيء لاعتمادات الميزانية والتسيير الباطني للإدارة العامة وعدم كفاءة مسيري المرفق العام…الخ.

وما هو الأغرب من كل ذلك، هو أن المنظمات الدولية الممولة لموريتانيا على َبيِنَةٍ تامة من ذلك فتستمر في تمويلها، بل تزيدها تمويلا كلما غرقت في الديون! إن كان ذلك يدل على شيء فإنه يدل على أن الدولة سَلَكَتْ مسارا انتحاريا، وهي على حافة وادِ إفلاس شديد الانحدار… يدفعها فيه شركاؤها الماليون في تَغَافُلٍ تامٍ منها…وحقْرٍ مُعْتَمَدٍ لشعبها.

مقالات ذات صلة

ابرز قصص مجبات على فيسبوك