“الوافر المفترى عليه بسبب “كحال كر

هل لبحور الشعر العربي علاقة بالموسيقى الموريتانية؟

أحمد الصديق

كثيرا ما يتحدث الحُدّاث ويكتب الكتاب عن الموسيقى الموريتانية، وهي موضوع يرى البعض أنه قـُتل تداولا ونقاشا، لكنْ هناك أفكار نمطية يكثر تردادها عند طرقه، ويبدو لي أن بعضها غيرُ دقيق أو “مجانفٌ” للصواب.. وسأحاول أن أساهم في إعادة النظر في بعض تلك الأفكار أو تجديد النقاش بشأنها، وإن بجهدِ مُقِـلٍّ ابتعد عن كثير من تفاصيل هذا المجال .منذ سنين

——–

سأبدأ أولا بخلاصة الفكرة المشار إليها في العنوان، وهي باختصار أن علاقة بحور الشعر العربي بمقامات الموسيقى الموريتانية (اظهورت ازوان) هي أقرب إلى الاعتباطية، وما يعتقده البعض من وجود علاقةٍ ثابتة بينها هو خطأ شائع.

نعم، قد توجد علاقة بين بحرٍ ما ولحنٍ معيّن (لبيتٍ كان أو نحية) في أحد المقامات، لكن ذلك لا يعني علاقة بين البحر وبين المقام نفسه “اظهر”، إذ اللحن أضيق من المقام ويحتاج غالبا الى شروط أكثر كضبط عدد المتحركات وغيرها، أما المقام فيمكن أن يُحكى أو يُغنى فيه أيُ بيت مهما كان بحره، فهو مثل “قلب ابن عربي” يقبل كل صورة.

وتأكيداً لاعتباطية العلاقة بين المقام “اظهر” والكلمات أياً كان بحرها، لا أبالغ إن قلت إنه يمكن الغناء حتى بالنثر -في غير الاشوار طبعاً- إذ من طبيعة “الدخولات”، وهي العزف المسترسل أي ما يسمى بالتقاسيم في المصطلح الموسيقي العربي، أنها منثورة أصلاً وليست محددة بإيقاع.. وكذلك ما يُحكى على نغماتها هو أيضاً “منثورٌ” موسيقياً، ولعل في بعض قصص أهل انكذي المغناة -كقصة محمد محمود الشهيرة وغيرها- دليلاً جلياً على إمكانية الغناء بالنثر.

وما دام الغناء بالنثر ممكنا فمن باب أولى الغناء بغيره.. هذا في ما يتعلق بـ”البيت”، أما الاشوار -أو النحايَ توخيا للدقة- فمن المتفق عليه أصلا أنها يمكن أن تقوم على أي بحر حسب اللحن المختار.

من أشهر البحور وأكثرها تداولا في الأحاديث بحرُ الوافر، وسأتناوله ببعض التفصيل، ثم أعرج بإيجاز على امثلة سريعة من أبحر أخرى..

——-

كثيرا ما نسمع أو نقرأ عبارات من نوع: 

اكحال كر يناسبه مريميدة والواكدي و”الوافر”

ولكحال يناسبه اسغير و”الخفيف”

ونحو ذلك من “القواعد الآمرة”.. ولعل وجود لحن معيّن للوافر في (اكحال كر) جعل كثيراً ممن يتحدثون عن علاقة بحور الشعر بأزوان يقعون في خلط، فما يسمى لدى البعض “وافر كر” هو مجردُ لَحن مخصوص في اكحال كر، مثلما لُحّن فيه الطويل (ابن مهيب مثلاً: به فاستنر إن تنتهض بك همةٌ، بمدح النبي اقطع زمانك ترشُدِ، شفيع الورى والهول قد بلغ المدى، فكم سيدٍ فيها منوط بسيد، هو الملهم الموحى إليه المنبهُ، لقد فاز من كان الرسول إمامه……إلخ)

وكما لُحن فيه أيضا الكامل والسريع لدى مدرسة الكبلة خصوصا.. ومما يغنون في الكامل:

مرت بنا أعوام وصل في الصبا / فكأنها من طيبها أيامُ

ثم انثنت أيام هَجْرٍ بعدها / فكأنها من طولها أعوامُ

ثم انقضت تلك السنون وأهلـُها / فكأنها وكأنهم أحلام..

وفي السريع:

يا مُسديَ النعمةِ لا تجفُني/ من نعمةٍ في الخلق لي مُشهرةْ

ويا مُيسِّـر العسيرِ اهدِني/ وحاجيَ العسيرَ ليْ يَسِّرَهْ

وما جنت يداي لي فاغفرَنْ/ يا باسط اليدين بالمغفرةْ

وكذلك:

سِــم سمةً تحمدُ آثارها/ واحمد لمن أعطى ولو سِمسمة

والمكرُ مهما اسطعتَ لا تأته/ لتقتنيْ السؤددَ والمكرُمة

والمهرَ مهرَ الحورِ وهْو التقى/ بادرهُ قبل الشيب والمهرمة..

ويبدو لي أن اختيار الوافر لكلمات ذلك اللحن المعروف في “اكحال كر” قد يكون حدثاً متأخراً نسبياً، إذ يشبه لحنـُه كثيراً لحن الواكدي في المقام نفسه مع تباين الكلمات، ولتوضيح ذلك، يمكن أن نقارن في مدرسة تكانت مثلاً بين اللحنين الشهيرين:

وطنبور مليح الشكل يحكي… (وافر)

لبلاك بالحلفة غلظلو افتيلك… (واكدي)

وسنجد الفوارق طفيفة، ومنها مثلا بعض الإيقاع في الواكدي عند آخر التافلويت:

 واخير من ليل الناس اتكول ليلك

(ولم يُنقل هذا الايقاع إلى الوافر مع إمكان ذلك طبعاً، هذا مع التنبيه إلى أن الإيقاع يتعلق بالشكل لا بالجوهر وهو اللحن).

 أما التشابه فيشمل نواحي كثيرة في النغمات وعدد كبير من الردات ومواضع الشبح ولمكظ وغير ذلك، كما أنهم يأتون في كل من الوافر والواكدي -كما يفعلون في بعض الألحان الأخرى من كحال كر- بردات بيظ قلائل في أواخر الإنشاد ثم يختمون بردات كحل (وغيرُ المتمكنين فنياً يصعب عليهم العودة إلى النغمة الكحلة في كر بعد أن يأتوا بالردات البيظ، وذاك من مواضع الزلل المعروفة).

ولعل ما حدث في “وافر كر” هو وضع كلماته محل كلمات الواكدي الضارب في القدم بسبب ندرة هذا البت أو لما يغلب عليه من طابع الفخر وما يقتضيه ذلك غالبا من مسّ من القبائل المنافسة وإثارة للنعرات، وهي أمور لم يعد الفنانون في الأعصر المتأخرة يستطيعون تداولها على نطاق واسع مما يدعو إلى استبدالها.. (حدث لكثير من التهيدين أمر مشابه، فأصبح يطوى ولا يروى، واستُعيض عنه بأمداح مستحدثة مقتصرة على “شكر اجواد” دون عيب اخرين، أو بمدائح للرسول صلى الله عليه وسلم).  

ومما يعضد هذه العلاقة بين الوافر والواكدي تقاربُهما في الطول، إذ كثيرا ما يقتصر الوافر على 11 متحركاً هي حده الأدنى في كل شطر (عند عَصْبِ “مُفاعـَلـَتـُنْ”، أي تسكين لامها) ولا يزيد على 13 متحركاً، وهذا قريب من حمر (مصاريع) الواكدي وهي عشرة متحركات.

لكن الحقيقة أن الوافر بعيدٌ جدا من أن يكون محصورا في اكحال كر، فقد تغنى به الفنانون في كل المقامات الرئيسية والفرعية (لرخاو) من كر إلى لبتيت، وسأورد أمثلة شهيرة مما تسعف به ذاكرتي الخؤون من مختلف المدارس تغني شهرتها عن تسجيلاتها الصوتية:

-في كر:

اكحال كر:

-ألا ياصاحبتي عوجوا فحيوا (مدرسة الكبلة)

-وطنبور مليح الشكل.. (لدى مدرسة تكانت) وسبقت الإشارة إليها.

ابياظ كر:

أقول لها وقد طارت شعاعا — من الأبطال ويحك لن تراعي

سلام لا يماثله سلام — على مَن بعدَه خلت الخيام

*في فاقو:

-جعلنا الهاشمي لنا دليلا / فسِرنا سير قوم آمنينا

-إذا ما مقلتي رمدت فكحلي / تراب مس نعل أبي تراب

التحرار:

-سلمتُ من الأوانس غير دَيّا / فَدَيَّ اليوم آخذة يديا

وأحياناً قليلة يغنى في غيره 

-الا أنبيك ويحك يا نديمي / بما أضفي عليّ من النعيم

ويغنى في غيره أحيانا

 -في لكحال:

كلفت بكم ففاض دمي دموعا / وبتّ سمير من هجر الهجوعا

(عيد المولود)

  -في لبياظ:

– حكت رجع الوشام على الذراع / منازلُ بالكناون فالذراع  

-حوت ما دون مرتبة التنبي / يداك من المكارم والمعالي

  -ومما هاجني فازددت شوقا / بكاء حمامتين تَجاوبان

 اللين:

-وما في الارض أشقى من محب / وإن وجد الهوى حلو المذاق  

في لبتيت (ابيظ)

-فتى يمسي ويصبح بالرشيد / يعلل بالنسيب وبالنشيد

-بقيت أسائل الركبان عمّن / أقام بذي الأراك ومن تناءى (لندن)

هذا ولا ننسى طبعاً مطولات البرعي الوافرية التي غناها الثنائي سدوم وديمي في كل المقامات تقريبا، بل كانا ينشدان الواحدة منها في أكثر من مقام أحيانا (قصيدة “رفاقي الظاعنين متى الورود” غناها سدوم في سيني “شريط 88” وفي تحرار “عيد المولود” وفي لين “وادي الذهب”، وكذلك قصيدة “كلفت بكم ففاض دمي دموعا” التي ذكرنا أنه غناها في لكحال من “عيد المولود” أنشدها أيضاً في اللين من “البهتان”).

__

ما قيل في الوافر يقال في الكامل والطويل والبسيط والخفيف وغيرها من البحور المتداولة، وسأقتصر هنا على أمثلة من الخفيف والكامل خشية التطويل.. لنأخذ جولة

#الخفيف في كر:

رَبِّ إن الهدى هداكَ وآيا — تك نورٌ تهدي بها من تشاء

سيني:

بلغوها إذا أتيتم حماها — أنني مت في الغرام فداها

إن ضرباً مع الغناء يُرامُ — من سوى النعمَ منكرٌ وحرامُ

#في فاقو:

التحرار:

في مزار الشريف سعد أبيه — كل خير وفي مزار بنيه

#في لكحال:

واجدٌ أنت من تعذبُ غيري — وأنا لم أجد سواك رحيما

(و ليت الفنانين “يجدون من يعذبونه” غير هذا البيت الابتهالي الجميل الذي كسروه وزناً وعكسوه معنىً)

#في لبياظ:

لازم البَرَّ بابَ والأمّ لالا — تـُكسَ نوراً وهيبة وجمالا

اللين:

مطلعُ الغربِ لاح وَيْحَكَ فيه — سعدُ خيرٍ مذ لاح سعدُ أبيه

وهذه أمثلة سريعة من الكامل:

-في كر:

سيني:

زار الحبيب حبيبه متنكراً — فبدا الرقيب له فولى معرضا

وعلى تفنن واصفيه بحسنه — يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

(ويغنى في اكحال كر وغيره)

-فاقو:

التحرار:

نقِّ المجالس من غليظ الطبع إن — رمت الغنا أو مثله من مؤتنس

لكحال:

مالي فُتنت بلحظكِ الفتاك — وسلوتُ كلَّ مليحة إلاّكِ

لا تسألنّ بُنيَّ آدمَ حاجةً — وسلِ الذي أبوابُه لا تـُحجَب 

(غالباً في التحزام أكثر من غيره من أجناس لكحال)

-لبياظ:

اللين:

شهد الزمانُ مع المكان بأنني — أفنيت نفسي في هوى أسماء

ما بين ضال المنحنى وظلاله — ضل المتيم واهتدى بضلاله

(واحيانا تغنى في سيني)

-لبتيت (ابيظ):

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا — ما أطيب اللقيا بلا ميعاد.                

مقالات ذات صلة

ابرز قصص مجبات على فيسبوك