بعد عامين: أية ملامح للغزوانية؟

ملف يرصد حصيلة سنتين من حكم الرئيس غزواني من خلال تحاليل سياسية، واستطلاع آراء

.مجموعة من السياسيين والخبراء

هل يخسر الرئيس غزواني الرهان الشعبي؟

فتح خطاب الترشح الباب واسعا للحديث عن خلاف جوهري بين المرشح غزواني وسلفه « عزيز »، وتعززت هذه الفرضية بعد الخرجة الإعلامية التي أعلن فيها الرئيس ولد عبد العزيز عن ترشيح غزواني لنفسه « امرشح راصو »، ومكنته صورته الجديدة بعد الخطاب في تلك المرحلة من الحصول على دعم أطراف وشخصيات من خارج الأغلبية  ظلت على خلاف مع حليفه طيلة فترة حكمه، وإن بقيت الشكوك والمخاوف تساورها من وجود علاقة « عضوية » تربط الرجلين وتجعل من تبعية الرئيس الجديد لسلفه أمرا واردا. وكما كان الحال أيام ترشحه فقد استمر الجدل حول الاستقلالية طيلة الحملة الانتخابية، وتعمق أكثر خلال الأشهر الأولى التي أعقبت نجاحه في الانتخابات الرئاسية.

لقد مكن أسلوب الرئيس غزواني الهادئ، وخطابه التصالحي من تهدئة الجبهة السياسية، مما مهد الطريق بسرعة أمام إيقاظ المعارضة التقليدية من صدمة نتائج الانتخابات الرئاسية « المرفوضة » وجعلها تمنح الرئيس هدنة مجانية  كعربون صداقة جديدة وبادرة ود في انتظار قابل الأيام

وقد استغل الرئيس  المنتخب هذه الوضعية السياسية الاستثنائية لخوض معركته الداخلية  لحسم السيطرة على مراكز القوة والنفوذ،فتمكن من تحقيق نصر عسكري خاطف غداة 27 نوفمبر 2019، تمثل في تحييد الأذرع المزعجة لسلفه وإدخال قوة الحرس الرئاسي تحت سيطرة جهاز الدولة لأول مرة منذ عقود وإعادة ترتيب المراكز الأمنية والوحدات العسكرية بما يلائم نظرته للوضع داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية. وبنفس العقلية العسكرية أيضا تم حسم السيطرة على الحزب الحاكم، لإنهاء الجدل المثار حول المرجعية.                                                              

كان من شأن هذه التطورات الحاصلة على مستوى قمة هرم السلطة، أن تسرع من ديناميكية التحرك نحو الخروج من جلباب ما بات يعرف بمرحلة « العشرية »، تحت غطاء دعم عريض وثقة معلنة من طرف أغلبية الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والإعلاميين في الساحة الوطنية؛ وخصوصا في ظل    تشكل رهان شعبي نادر حول الاختيارات الكبرى للرئيس غزواني  في مجالات  محاربة الفساد والاهتمام بالفئات الهشة داخل المجتمع ومحاولة تخليق الحياة السياسية.

 فهل تنقلب الصورة بعد أن بدأت قطاعات واسعة من المراهنين على حكم الرجل في التعبير عن شعورها ب « خيبة الأمل »  نتيجة غياب « القوة والصرامة » في تنفيذ ما تم التعهد به من برامج والتزامات، وبطء التقدم والحسم  في ملف محاربة الفساد واستمرار السلطة  في لعبة تدوير نفايات الأنظمة السابقة؟ وكيف حصل ذلك بعد أقل من عامين من ممارسة السلطة؟

حصيلة متواضعة

بهدف تسريع تنفيذ برنامج « تعهداتي » للرئيس المنتخب، أطلقت الحكومة  برنامج « أولوياتي » الذي تضمن على الخصوص ما تمت تسميته بالأنشطة سهلة التنفيذ المرتبطة بظروف حياة المواطنين من خلال القيام ب 25  إجراء ونشاطا في مجالات حيوية للسكان والنشاط الاقتصادي  والتنموي للبلد.

ومع ظهور جائحة كوفيد19 أعلنت السلطة عن خطة جديدة لمواجهة الوباء تمثلت  في إنشاء صندوق لمواجهة كورونا  بلغت المساهمات فيه مع نهاية شهر يناير2020 مبلغ 4,3 مليار أوقية جديدة وجهت لدعم قطاع الصحة ومؤازرة الأسر الفقيرة.

 ومع مطلع شهر سبتمبر 2020 تم الإعلان عن »خطة الإقلاع الاقتصادي » في خطاب رئاسي رسمي بتمويل قدره 700 مليون دولار يتم استثمارها بغية توفير الظروف المواتية لإقلاع اقتصادي مستديم وشامل, وكان من الطبيعي أن ترفع هذه البرامج والمبادرات والخطط المعلنة، سقف انتظارات المواطن الذي أصبح يتطلع بشغف لثمار هذه السياسات وانعكاساتها على المناحي المختلفة لحياته.

وفي ظل تواضع الحصيلة المنجزة من مختلف هذه المشاريع والصناديق والتعهدات، وأمام نفاذ صبر شرائح واسعة من المواطنين وجدت قوتها الشرائية تتآكل بشكل كارثي، تطوعت دوائر خاصة في الحزب الحاكم معروفة بقدراتها الخارقة على أن تجعل من الحبة قبة، مسنودة ببعض الوزراء الساعين بشتى السبل للحفاظ على مناصبهم؛ بتضخيم الحصيلة لدرجة أن مسؤولا ساميا وجد الجرأة على التصريح بأن تقدم الأشغال في بعض محاور تنفيذ برنامج الرئيس تجاوز 70% ومع التأكيد على أن برامج  حكومية عديدة قد تم توجيهها للتخفيف من معاناة فئات هشة داخل المجتمع،

فإنه لا مناص من الاعتراف بأن الأوضاع  المعيشية   للكثير من المواطنين  ظلت تتدهور باستمرار بسبب تداعيات جائحة كوفيد19 وتكلس كتلة رواتب الغالبية العظمى من العمال، و صعوبة أوضاع العاملين في القطاع غير المصنف، إضافة إلى عدم نجاعة سياسات محاربة البطالة ومحدودية عروض التشغيل وضعف الرقابة على الأسعار بل وتركها تحت رحمة الموردين والمنتجين والموزعين.

كما أنه لا مناص أيضا من الاعتراف بأن الإدارة قد أصبحت مرتهنة لدى مجموعات عريضة من الفاسدين يديرون القطاعات بعقلية العصابات بما يمتلكون من خبرات فذة راكموها عبر عقود من الترقي في سلم الابتذال والرداءة وخيانة الأمانة، وهي خبرات ليست شيئا آخر غير النصب والاحتيال ومراوغة القوانين والتلاعب بالمساطر الإدارية.

ولم يعد خافيا على أي كان، أن هذه المجموعات المهيمنة على الجسد الإداري أصبحت تسير بالبلد وبخطى متسارعة نحو آفاق غامضة  وتحرمه من كل الفرص المتاحة لتنميته وأنها هي المسؤولة بشكل خاص عن تعطيل البرامج المعلن عنها وتحويل بعضها بطريقة مأساوية إلى مجرد حبر على ورق.

خيار صعب

بالرغم من أن الوقائع ومختلف التقارير والتقييمات الجادة، تؤكد حجم فظاعة التدمير الذي تعرض له اقتصاد البلاد طيلة العقود الأخيرة وأنتج مديونية كارثية، مخلفا هياكل مشاريع خربة وعاجزة عن تحقيق أبسط الأهداف المرصودة لها؛ فإن الوقت لم يحن بعد فيما يبدو لإجراء قطيعة مع السياسات الرعناء والأساليب والشخوص البغيضة التي أنتجت هذا الواقع ورعته واستفادت منه على حساب المصالح العليا للبلاد وللشعب.

لقد تعفن الوضع لدرجة لم يعد من المجدي معها اللجوء لا إلى الترقيعات الحكومية ومبادلة الأدوار بين نفس الوجوه الماكرة، ولا إلى الملاحظات الفاترة من طرف الوزير الأول حول « بطء التنفيذ » ولا حتى إلى التعبير عن الغضب الرئاسي بطرق لا ترقى إلى إثارة اهتمام موظفين هامشيين أحرى من خبروا امتصاص الصدمات وتطويع الإرادات.

وفي ظل هذا الوضع المقلق، تصبح السلطة مطالبة بوضع حد للغموض  الذي لا زال يطبع الكثير من التوجهات  المعلنة،حيث يتحتم بشكل خاص الحسم في الخيار الذي ستنتهجه السلطة بخصوص محاربة الفساد بين المضي قدما في هذا التوجه بما يتطلبه من ضرورة الإقلاع عن الممارسات المناقضة للتوجهات المعلنة والكف عن إرباك  الساحة بإعادة تجديد الثقة في الأشخاص الضالعين في التسيير الكارثي للمراحل السابقة، وبين الانكفاء على الذات لقيادة نمط هجين ومشوه تتنازعه الرغبات الشخصية والميول الذاتية لمختلف  الممسكين بمراكز القرار، مع ما يمثله ذلك من خطورة على مستقبل الدولة والسلطة الحاكمة.

كما أن استمرار التناغم بين السلطة والمعارضة التقليدية، في ظل ضعف الأداء الحكومي الحالي وشلل الذراع السياسية للنظام والصراع المتنامي مع الرئيس السابق، يعتبر مجازفة بالغة الخطورة بالنسبة للطرفين، ليس لأنه قد يفتح الباب أمام قوى وجماعات جاهزة لملء الفراغ، بل لما يحمله أيضا من مخاطر للطرفين، بما في ذلك تحجيم قدرتهما على التأثير في مجرى الأحداث  في المستقبل  القريب، مما يجعل احتمال خسارة مدوية في أية انتخابات  بلدية وبرلمانية سابقة لأوانها، أمرا واردا مع كل ما يمثله ذلك من تهديد لمستقبل النظام.

زمان الغزواني:

تحديات مهملة وآفاق مبهمة

توشك السنة الثانية من المأمورية الأولى للرئيس غزواني، على الانقضاء وسط حالة شبه عامة من الغموض تلف كل شيء على علاقة برجل ظن الموريتانيون أنهم خبروه خلال عقد ونصف من « التألق » في قيادة الطغمة الحاكمة، قبل أن يكتشفوا بعد وصوله إلى السلطة، الفروق الجلية بين طبعة « الرجل الثاني » وما آل إليه حاله حين تسلم زمام أمور البلاد.

ما الذي تغير بعد اتخاذ غزواني قصر الرئاسة مسكنا له؟ إلى أين يقود موريتانيا؟ هل هو الماسك الفعلي لدواليب السلطة؟ هل يلزم نفسه بنظارات لا ترى ما هو خارج حظيرة الأبناء المدللين لأنظمة الفساد؟ متى يغادر معتكفه ليسجل حضورا واعيا وفعالا في المشهد السلطوي؟ وهل يمكنه أن يخرج من جلباب عتيق رصعته أنامل الزمن بأسلاك فولاذية ظلت عصية على عوامل التعرية؟

تلك نماذج من تساؤلات باتت تؤرق موريتانيين كثر، بعضهم راهن على الرئيس الجديد انطلاقا من دوافع متباينة وإن وجدت قاسمها المشترك في التفاؤل بالقادم الجديد انطلاقا من خلفيته الاجتماعية إضافة إلى الوفاء لثقافة التقرب من الحكام؛ بينما انساق بعضهم الآخر مكرها إلى تصديق وهم أن الوقت قد حان لأن تجد البلاد مخلصا ينقذها من حالة الفشل المستعصية وأن الرئيس الحالي يحمل بعض صفات ذلك المخلص المتخيل!

وهي تساؤلات تظل مطروحة بإلحاح على الرغم من الدعاية الرسمية المبحوحة حول ما يعرف ببرامج تعهداتي وأولوياتي وأولوياتي الموسع، ذلك أن الوقت يمر وبلادنا عاجزة عن إطلاق ولو مشروع يتيم ينم عن وجود إرادة تخطط لما هو أبعد من التراشقات اليومية على وسائط التواصل الاجتماعي، في وقت يحقق فيه حتى جيراننا السنغاليون ما يشبه المعجزات!

فهل تكون البيروقراطية قد حسمت المعركة مبكرا لمصلحتها وأحالت « تعهداتي » إلى سلال مهملاتها؟ أم هي قوة التحديات التي واجهت الرئيس في بداية مأموريته فأعاقت تنفيذ برنامجه الانتخابي؟ وما الذي يمكن أن يعنيه تآكل شرعية نظام هو في تحليله النهائي أداة لتكريس هيمنة المؤسسة العسكرية على مقاليد السلطة بالتناوب بين الانقلابات والانتخابات؟

أية تحديات؟

من محاولة انقلابية مزعومة خطط لها الرئيس السابق عزيز إلى التفشي المروع لجائحة كورونا، مرورا بتصدع الثقة بين مكونات الشعب وغياب دولة القانون والمواطنة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية واستمرار ثقل وطأة الدين العمومي وارتهان الاقتصاد للموارد الطبيعية وندرة المصادر البشرية القادرة على انتشال البلاد من الهاوية والراغبة في ذلك؛ يمكن اختصار أبرز تحديات رئيس وعد شعبه بتحقيق نقلة نوعية في حياتهم.

كيف واجه الرئيس التحديات؟ هل بدأ بمعالجة أكثرها إلحاحا؟ أم أن بعضها طغى على الآخر فاستنزف جل نشاط الرئيس وحكومته؟ وهل يحتاج الأمر إلى كبير عناء في ظل تركيز كل الجهود الممكنة والمتخيلة على إدارة الحرب المعلنة على كل من الرئيس السابق والفيروس التاجي، مع ملاحظة وجود تشابه غريب بين طريقتي خوض الحربين ومآلاتهما، حيث الجعجعة المتواصلة من دون طحين!

أما الجبهة الأخرى التي يذكر من خلالها الرئيس بنفسه من حين لآخر، فتخص اللقاءات المتقطعة مع الفاعلين السياسيين من رؤساء أحزاب وشخصيات وطنية، على وقع نقاشات دائرة يختلط فيها المعارض بالموالي وقد لا تستهدف أكثر من الإجهاز على « الإصلاحات الدستورية » المحسوبة على الرئيس السابق، ليستمر الموريتانيون في الدوران داخل حلقة مفرغة يدفعها العزيز في اتجاه ليعيدها الغزواني إلى الاتجاه المعاكس!

وبدلا من أن تتم طمأنة المواطنين من خلال إجراءات ملموسة على جدية التوجه الإصلاحي للسلطة، يتم تقزيم الدور الدستوري للرأس الثاني للسلطة التنفيذية ويمنح شك على بياض لبيروقراطية الفساد عبر تغييب الرقابة ورفدها بطواقم من الصف الثاني كانت تستفيد من عطلة « تبييض »، في عملية تناوب مأساوية على تبديد ثروات البلد، تكشف عمق هيمنة مافيات الفساد وزيف الادعاء بوجود إرادة للإصلاح لدى القيادة السياسية.

هكذا اقتصر إصلاح التعليم على شعار « المدرسة الجمهورية »، وتحقيق الاكتفاء الذاتي على تعميم حمائي تم التراجع عنه في أقل من أسبوع، والنهوض بالتنمية الحيوانية على مهرجان تمبدغه التحايلي وندائها التاريخي؛ فيما استمرت السلطات الجديدة في التفرج المتمالئ على الاستنزاف الممنهج للثروات السمكية والمعدنية، منتهجة مقاربة غريبة للتعيينات في الوظائف العمومية وللتدخلات الحكومية، تدعو إلى الخشية من أن تكون الدولة في طريقها لأن تتحول إلى ملك عائلي للرئيس وحاشيته.

تقسيط الوهم

ربما لأن الحاجة تظل ماسة لدى البعض إلى تأكيد صدق توقعاتهم بشأن القادم الجديد، أو لأن الاعتراف بالواقع المزري قد يتسبب في حالة إحباط عامة قد تكون لها انعكاسات خطيرة على استقرار البلاد، ما يزال البعض يراهن على وجود قدرات خارقة لدى الرئيس تجعله يستطيع -مثل طائر الفينيق- الانتفاض من رماده في أية لحظة ليفاجئ الموريتانيين بإنجازات عملاقة تتجاوز ما تعهد به وليملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا!

تتبنى هذا الطرح، شريحة معتبرة من الرأي العام تشمل ساسة وإعلاميين بارزين يستميتون في الدفاع عن تفاؤلهم، بالرغم من أن أمارات الفشل بدت جلية خلال المائة يوم الأولى، ليس فقط بسبب نوعية الأشخاص الذين تم اختيارهم ضمن التشكيلة الحكومية والدوائر الضيقة، وإنما أيضا نتيجة الكسل الذي طبع أداء معظم القطاعات والاستعراض الذي ميز التحركات القطاعية الأولى سواء تعلق الأمر بتصفية الحسابات مع الصيادلة أو بمطاردة وهم إمكانية وضع الأسس الكفيلة بإصلاح التعليم خلال أقل من 3 أشهر.

وعلى الرغم من بعض المحاولات الهزيلة من حين لآخر لوضع القطار على السكة، تبقى معظم الإجراءات المتخذة في خانة الترقيع والتلفيق والبحث عن الفرقعات الإعلامية، كما هي الحال مع حكاية « الإقلاع الاقتصادي » وتوفير 52 ألف فرصة عمل خلال 30 شهرا » وتنفيذ أكثر من 75% من « تعهداتي »، في حين أن الرئيس ربما كان أول من يدرك بأن الإدارة التي ورثها وعض عليها بالنواجذ ليست إدارة تنموية وبأنها ليست قادرة على الإقلاع ولا حتى راغبة فيه.

ومع ذلك يستمر الرئيس شيئا فشيئا في إذكاء الأمل بأن الأوضاع تحت السيطرة وفي تحسن مستمر، على الرغم من أن الواقع يكشف عن حالة شلل شبه عامة؛ بعد تحول الفضاء الإداري للبلاد إلى جزر معزولة عن بعضها البعض تدار كل منها من طرف « إقطاعي » قد يكون مديرا أو وزيرا أو أمينا لمصلحته الخاصة، وبعد أن أعطت الزيادات التي حصلت مؤخرا في ميزانيات التسيير الضوء الأخضر لبيروقراطية دأبت على نهب خيرات البلاد والتسول باسمها وتجويع وتشريد شعبها.

ويبقى السؤال المطروح بإلحاح في هذه الوضعية: كيف لرئيس شاهد عن قرب مصاير من سبقوه أن يسلك نفس السبل التي مروا منها؟ أو بعبارة أخرى كيف لرئيس يكرس محاسبة الرؤساء السابقين ومصادرة أموالهم وسجنهم، أن يعمل وفق نفس الآليات التي عملوا بها ومع نفس الأشخاص الذين أوقعوهم؟ أو بعبارة أوضح كيف لرئيس سن مسائلة « الرؤساء الأصدقاء » أن تزدهر في ظله المحسوبية والزبونية والتسيب الإداري والفساد؟

هل يعني ذلك أن الرئيس الغزواني طرأ عليه بشكل مفاجئ زهد في الاستمرار في السلطة وبدأ التخطيط للخروج منها بأقل الأضرار الممكنة؟ أم أنه على العكس ازداد شغفا بها فطفق يخطط للبقاء فيها أطول فترة ممكنة مع الاستعداد لتحمل ما يترتب عن ذلك من مسؤوليات؟ أم لعله يتقاسم السلطة -في الواقع- مع جهة أخرى بقدر ما تدفعه إلى الغوص في الوحل بقدر ما تعد بالتغطية عليه واستلام الراية من بعده؟

حقيقة مرة

يمتلك الرئيس بالفعل أوراقا مهمة تتيح له هامش مناورة لبعض الوقت، ليس من أهونها شأنا الارتفاع المستمر لأسعار الحديد والذهب في الأسواق الدولية والانطلاقة المرتقبة لاستغلال حقل الغاز المشترك مع السنغال، إضافة إلى بعض الدعم الدولي وإلى فترة السماح الممنوحة من طرف قطاعات عريضة من الرأي العام وخصوصا ما يعرف بالمعارضة التقليدية.

وهي أوراق ساهمت حتى الآن في تفادي الأسوأ رغم وجود مناخ مؤات للاحتجاجات ضمن سياق الانتفاضات المتصاعدة في الجوار الأفريقي والعربي، لكن إلى متى ستظل مربحة ونحن قاب قوسين أو أدنى من استفتاء دستوري وانتخابات محلية ونيابية؟ هل ستنصهر المعارضة في الجسد الموالي لمواجهة نفس المصير، أم أنها ستنعطف 180 درجة لتواجه الرئيس بحثا عن مكاسب انتخابية تمثل تحديا وجوديا بالنسبة لها؟ وما الذي سيمنع من بروز معارضات جديدة أكثر نضالية تجرب حظوظها في زمن التواصل الاجتماعي المكثف؟

ينضاف إلى ذلك أن أوراق الرئيس الخاسرة بدأت تتكشف أمام الجميع، لتريهم حقيقة مرة طالما رفضوا تصديقها، متمثلة في تأكيد العجز الجلي للسلطات الحاكمة عن تغيير أوضاع البلاد نحو الأفضل: روح تغيير مفقودة، تخطيط بالنسخ واللصق، حصيلة إنجازات هزيلة، تسيب إداري، تخبط وارتجالية ومحسوبية، حريات منتهكة، ذراع سياسية مكسورة، جناح إعلامي مهيض، تمكين لنخب الفساد، تثبيط لهمم الشباب …

ما هي النتائج التي ستترتب على تفشي هذه « الحقيقة المرة » بين قادة الرأي وكل الرأي العام الوطني؟ كيف سيتصرف الغزواني حين ينفضون من حوله واحدا تلو الآخر بعد أن أسروا له بالولاء؟ وما هي ردة فعل الجهات المعنية بمستقبل السلطة في البلاد بمن فيهم « المجموعات الصلبة » الحالمة بتأبيد سيطرتها على حكم البلاد؟ هل سيشبكون سواعدهم في انتظار انجلاء الضباب أم سيكونون طرفا في الصراع القادم على سلطة حان وقت استبدال مصدر شرعيتها؟

آخر العنقود

من سوء حظ المجموعات المهيمنة على مركز صنع القرار في البلاد، أن مسألة السلطة في بلداننا لم تعد شأنا داخليا خاصا بها يتم التشاور فيه مع جهات خارجية تتغير بتغير الولاءات، ذلك أنه من بين أهم حسنات الانتفاضات والثورات العربية، أن الشعب أصبح لاعبا رئيسيا في تحديد من يحكمه وأن أبعد الطغاة عن فهم مثل هذا التحول غالبا ما يجدون أنفسهم في نهاية المطاف خلف القضبان إن لم يكن في وضع أكثر مأساوية.

صحيح أن الثورة الموريتانية ما تزال مؤجلة، غير أن الأكثر صحة من ذلك هو أن « الاستثناء الموريتاني » مجرد دعاية واجه بها النظام السابق محاولات مبكرة للالتحاق ببعض الثورات العربية؛ وأن الأوضاع تظل قابلة للانفجار في بلد أكثر من نصف سكانه شباب، تغيب فيه العدالة والمساواة وأكثر من 40% من مواطنيه يرزحون تحت خط الفقر،فيما طريقة الإضاءة الأكثر استخداما فيه ما تزال المصباح اليدوي.

من هذا المنظور، وبحسب مختلف المعطيات المتوفرة يمكن ترجيح تطور الأوضاع داخل البلاد وفقا لأحد السيناريوهين التاليين:

أولا: سيناريو استمرار الوضع الراهن 

حين تستمر السلطة في الاعتقاد بأن الوضع الراهن مثالي أو قريب من ذلك، لن تجد بالطبع الحاجة إلى القيام بالتغييرات المطلوبة، حينها يكون الوضع مرجحا لأن يتطور في أحد اتجاهين: إما أن يلجأ النظام، بعد إنهاء المأمورية بصعوبة كبيرة، إلى خوض انتخابات الرئاسة بمرشح جديد يسعى من خلاله إلى استعادة جزء من مصداقيته وفرض استمراريته في السلطة، أو يضطر إلى تقديم الرئيس الحالي لخلافة نفسه، مما سيفرض استخدام ما تبقى لدى الدولة من رصيد في شراء الذمم لتأمين الفوز بالمأمورية القادمة.

وفي الحالتين لن يكون الكرسي مضمونا على الأقل كما حصل خلال الرئاسيات الأخيرة، خصوصا مع استمرار الصراع داخل النظام وتصاعد المقاومة التي يبديها الرئيس السابق ومع احتمال بروز مرشح من العيار الثقيل تتطابق بعض المعطيات بشأن استعداده لدخول حلبة المنافسة، أو مع إمكانية نجاح الحركات الاحتجاجية الشبابية، مدعومة بالقادة الأكثر تأثيرا داخل الشبكات الاجتماعية، في التوحد خلف مرشح موحد لخلق المفاجأة على غرار ما حصل في دول عديدة.

ثانيا: سيناريو تدهور الأوضاع

حين تتطور الأوضاع نحو الأسوأ ويبلغ الاستياء مرحلة تدفع الشعب إلى الخروج من أجل فرض التغيير، فليس هناك ما يمنع من أن تتطور الأوضاع باتجاه حالة ثورية على غرار ما حصل في إحدى الجارتين المتجاورتين: مالي والجزائر، وحينها ستكون البلاد بحاجة إلى حكمة جميع أبنائها وتعاونهم من أجل أن تنجح في العبور إلى بر الأمان بروح جديدة، بعد أن تكون قد تخلصت ممن جثموا عليها ردحا من الزمن يتلاعبون بثرواتها ويدمرون نسيجها الاجتماعي ويعتدون على حريات وحقوق شعبها.

هل يعني ذلك أن الغزواني قد يكون آخر العنقود، أي الجنرال الأخير الذي يحظى بشرف حكم البلاد في « السلسلة الذهبية » التي تعاقبت على قيادتها خلال العقود الماضية؟ وهل في التاريخ ما يثبت بأن قدر الشعوب أن تظل رهينة بأيدي نخب لا تحسن غير العناية بمصالحها الخاصة، أو بأن الدولة هي ملك عائلي يحق للجنرالات وحدهم تبوؤ أسمى مناصبها؟

مقالات ذات صلة

ابرز قصص مجبات على فيسبوك