عبّاس براهام
أستاذ تاريخ الأفكار بجامِعة لويزيانا، الولايات المتحِدة
أيّ نوعٍ من الشخصيات السياسيّة يمكِن نسبتُه للنظام الموريتاني « الجديد »؟
تكمن صعوبة الإجابة على هذا السؤال في أنّ ملامِح الانتقال السياسي تمتلك شخصيتها هي الأخرى، التي تختلِف عن الشخصية الناضِجة للنظام. إلاّ أنّ المخاض السياسي، بدورِه، يُحدِّد شخصية سياسية قد تكون مستديمة. مثلاً تتشكّل ملامِح الغزوانية في صراع سياسي بين النظام « الجديد » و »السابِق ».
لقد كانت صراعات الأنظمة اللاحقة بسوابِقها دوماً جزء من الانتقال السياسي في موريتانيا؛ لعلّ أخفّه كان في الفترة الوجيزة، والتي يبدو قُدماً أنها استثناء، في 2007-2008. إلاّ أنّ الصراع السياسي، وشيئاً ما القضائي، بين النظام الحالي والسابِق يختلِف في أنّه يحلّ في سياق انتقال كان يبدو إلى حدّ قريب طوعياً للسلطة. فهو إذاً صراعٌ بعدي على الشرعية. وفيما يُحاوِل النظام الجديد بناء شرعية سياسية تنبني على القطيعة- بدل الوراثة- السياسيّة فإنّه أيضاً يوظِّف جملة من استراتيجيات البقاء. هذه الاستراتيجيات تُعطيه شخصيته.
قُبيل تسلّمه السلطة، وحتّى في بواكير أيامِه في 2019 وبدايات 2020، زعم نظام غزواني أنّه امتدادٌ لنظام ولد عبد العزيز. إلاّ أنّ الفترة الغامِضة من الانتقال الدِّيمقراطي في أعقاب انتخابات 2019 سرعان ما خلَقت قطيعة يبدو أنّ النظام اتجَه فيها إلى محاولة البحث عن شرعية بديلة. ليس هدفنا هنا معرفة الخلاف ولا أسبابه: وإن يبدو أنّها متعلِّقة بتناقُضات مصلحية وخطابيّة. ما يهمنّا هو المسلك الذي يأخذُه النظام « الجديد » في بناء شرعيته وأساسه. رغم أنّ هذه الشرعية البديلة لا تُقدِّم نفسَها على أنّها طائعية، إلاّ أنّها تبدو بالفِعل كذلك. كان نظام ولد الطائع قد انبنى على عقد سياسي بين الدولة والمجتمَع من خلال ريعية الدولة وتصالحها مع الأعيان والوجهاء، واستقدام الأطر أنّهم واجِهات للأعيان والوجهاء.
كانت الطائعية هي النظام المعياري للدولة الموريتانية الحديثة لأنّها هي النظام الذي بلوَر قاعدة للمشاركة السياسية، بين الدولة والمجتمع التقليدي. لم تنبنِ الطائعية فقط على القمع، الذي كان جزءاً منها، وإنّما أيضاً على سياسات رغائبية متمثّلة في خلق مخيال جديد للشراكة والاتفاق وتقاسُم الأدوار. وبذات الطريقة فإنّ جزءاً أساسياً من الطائعية المُحدَثة هو توقير واستقدام مجتمع « الخيمة الكبيرة ». منذ 2007 استُقدِم لهذه الترتيبة الأرستقراطية « خطاب الأخلاق »، الذي يُركّز على « حُسن تربية » القادة الجُدد للبلد. أما في نظام 2019 فهو أيضاً خطاب لا يخلو من مضامين أنسابية وتربوية معيّنة.
جزءٌ أساسي من الطائعية هو العودة إلى مأسسة المكافأة السياسية. ولكي تنهَض المكافأة السياسيّة لا بدّ مسألتيْن: أولاً رئيس منسحِب، يُعهِّد العمل اليومي إلى مراكز قوى وثانياً تفعيل حزب حاكِم. ولذا تعلّق جزءٌ من الصراع السياسي ما بين عزيز وغزواني بـ: أولاً بصراع قائد متوارٍ مع آخر نشط و، ثانيا، بصراعٍ على امتلاك الحِزب الحاكم. في النظام الطائعي يضمن الحزب الحاكِم المُفعّل مأسسة الولاء والتدرّج والمكافأة والطابور. مع الغزوانية لا يُصبِح الحِزب الحاكِم فقط حزب مغالبة وتعبئة دعائية، بل وعموداً فقرياً للمجتمع السياسي؛ وبالأخصّ من خلال متابَعة مشروع غزواني في التهدئة السياسية. لم يعد ذلك الحزب الذي ينبَح المعارضة؛ بل صارَ حزب الولائم وطلب التهدئة وما سمّاه ماكس فيبر بـ « روتَنة الكاريزما ».
إلاّ أنّ المكافأة السياسيّة الطائعية لا تتعلّق فقط بتقسيم العمل السياسي؛ بل وتشمل التغاضي عن الفساد. بعبارة أخرى، يُصبِح الفساد مكافأة سياسيّة في حدّ ذاتِه. كانت الطائعية تُشجّع الفاسِدين على استثمار مكتسباتِهم المالية سياسياً لخلق تبعيات واسِعة في صالِح النظام. مع غزواني يتمّ متابعة التغاضي عن الأخطاء السياسية والإدارية؛ بل ويتمّ تدوير المُقالين والمُفسِدين. أكثَر من هذا، فإنّ المكافأة السياسيّة تتعلّق بتسهيل استثراء طبقة من رجال الأعمال تدور في فلك النظام الجديد. فمنذ العهد الطائعي أدركَت الطبقة الحاكمة علاقة السياسة بالاقتصاد من خلال الاستفادة المادية من خلق قاعدة شعبية للنظام والاستثمار السياسي فيه لقاء الاكتساب والتنفّع منه.
إلاّ أنّ المكافأة السياسيّة الطائعية كانت عقداً اجتماعياً مع مجموعات قبلية أيديولوجية وتجارية تُقدِّم خدمة التشريع السياسي مقابل الاستقراء. بينما يقوم نظام المكافأة السياسية منذ ما بعد ولد الطائع على صفقات من تحت الطاولة تقوم بها السلطة مع معاملين ومقاولين لأسباب غير سياسيّة، وتعود بالنفع، فيما يبدو، على الطموحات المالية للحاكمين، الذين لم يعد يسهل التمييز بينهم وبين رجال الأعمال. حتّى نظام المكافأة السياسيّة لم يعد اجتماعياً، بل صارَ مافيوياً. هذا أيضاً تمييع آخر للطائعية.
إلاّ أنّ المكافأة السياسية من حيث هي اتفاق سياسي وليس فقط معاملة زبونية ما زالت قائمة بمعنى ما. ويحدُث هذا بالأخصّ في علاقة نظام غزواني مع المعارضة. فما يبدو هو أنّ المعارضة توصّلت إلى صفقة سياسية مع النظام أرجأت بموجبها النضال السياسي لحين استقرار النظام وبالأخصّ لحين هزيمة العودة العزيزية. كما يبدو فيها أنّ تطيمنات وتفاهمات غير معلنة قد حصلَت بين الطرفين.
جزءٌ أساسي من الطائعية المُحدَثة هو « فنّ الصفقة ». فبدل أنْ يسعى النظام إلى بناء شرعية على الخصومة السياسيّة مع الطبقة السياسية فإنّ نظام غزواني يروم التهدئة السياسيّة من خلال « فنّ الصفقة » مع زعماء القِوى السياسيّة. جزء أساسٌ من الطائعية المُحدَثة هذه هو سريّة السياسة. فالقوى السياسيّة التي خرجت من الاجتماعات الغزوانية مرتاحة لم تُبين حتّى لأحزابها أحياناً ما هي مُقبِلة عليه. هذه سجية طائعية أخرى، وهي أنّ الصفقات السياسية غير معلنة، في احتقار للرأي العام وعودة إلى تقليد أرستقراطي وهو أنّ الشراكة السياسية تأتي بين الكِبار، ولا يُشرَك في تفاصيلها الصغار. وهكذا يتمّ إبعاد السياسة من المجال العام. وكما هو واضِح فهذا تناقُض ومفارقة في جوهره.l
إنّ الطائعية هي مخيال للاستقرار السياسي من خلال محاولة الاتفاق بين قواعِد اللعبة. ولكن المرض الطفولي للطائعية كان دائماً محاولة حصر التوافُق بين الكِبار وفي سياق السرية وإطلاق اليد على صغار المناضِلين وعلى الرأي العام الفردي والمستقل. هذه التناقُضات هي التي أودَت بالطائعية. أمّا مشروع الطائعية بدون ولد الطائع فهو محاولة العودة إلى ما فشِل في عصر أقلّ ديمقراطية وأقّل توثيقاً، فكيف بعصر أكثَر حضوراً؟!