عافية غزواني.

عبّاس براهام

أستاذ تاريخ الأفكار بجامِعة لويزيانا، الولايات المتحِدة

الناظِر في المشهَد السياسي الموريتاني يحارُمن نجاح الرئيس غزواني في إحقاق صفقة تراضٍ مع المجتَمع السياسي التقليدي وفشَله في إحقاق صفقة مماثِلة مع الجماهير. نحن أمام نُخبٍ راضيّة وشعبٍ غاضِب، الصفة الأبدية للثورة.

في الرابع والعشرين من سبتمبَر الماضي اندلَعت في مدينة الركيز، جنوب غرب البلاد، احتجاجات شعبيّة مردّها الفارِق الشاسِع بين أسعار خدمات الكهرباء وعدم توفّر الخِدمة وتقطّعها. الانتفاضة، التي بدأت فردية، سرعان ما استقطَبت شباب المدينة من جميع المراتِب الاجتماعيّة والمكوّنات الوطنيّة. وسرعان ما أدّى سخط المحتجين إلى توجيه غضبِهم إلى المؤسّسات الوطنيّة وإضرام النار في بعضِها. ردّت السلطات بإنفاذ قوّة أمنية من العاصِمة واعتقلَت أكثر من ١٣٠ معتقَلاً، بعضُهم تعرّض لتعذيب بدني في قمّة القسوة والوحشية.

ليست هذه الانتفاضة ضدّ سوء الخدمات ودور الدولة بجديدة في عهد الرئيس محمد ولد الغزواني. ففي ٢٢ فبراير الماضي لم تعُد صدور المحتجين في مقاطعة الشامي، شمال غرب البلاد، تُطيق المزيد فوجّهوا غيظَهم إلى مؤسّسات الدولة وأغلقوا الطريق السيّار بين نواكشوط ونواذيبو. كان سبَب الاحتجاجات هو نفس السبب في الركيز: الفارِق بين التكلفة والخدمة. فبصفتهم منقّبين عن الذهب في الشمال الموريتاني، يدفَع المحتجون نسباً عالية من الضرائب دون أن تتوفّر خدماتٌ لتغطيّة النشاط الممكوس. وقد مات عشرات الموريتانيين الذين دفعوا ضرائب عالية دون أن تتوفّر لهم خدماتٌ صحيّة أو لوجستيّة تقيهم الموت في شربة ماء. مرّة أخرى تدخّلت أجهزة الأمن، مكوّنة من الدرَك الوطني، وسحَقت الاحتجاج.

وقُل نفس الشيء في بلدية تيفيريت، ضاحية نواكشوط، التي تزايدت احتجاجات أهلِها على مرّ العامين الماضييْن ضدّ تحويلِ الضاحيّة إلى مكب نفايات. ورغم التوصّل إلى اتفاقات مع السلطة إلاّ أنّ المكبّ ظلّ مفتوحاً ومُعبّئاً، مؤدِّياً إلى آثارٍ مسرطِنة ومُلوِّثة. وكما في مثيرتِها بعثَت السلطة بسرايا أمنيّة عذّبت المتظاهِرين بقسوة.

وليست أحداث الركيز بالوحيدة التي تُعبّر عن امتعاضٍ من ارتفاع أسعار الكهرباء والمياه مع تردِّي خدماتِها. ففي الثالث من مايو التأم المحتجون في الطينطان، في الجنوب الشرقي، خلف حركة عفوية غير مرؤوسة، رافِضة الانقطاعات المتكرّرة واليومية للكهرباء وارتفاع أسعارِها. قامت الاحتجاجات في السوق المركزي وأشعَلت الإطارات أمام مراكِز الولاية.

ليس جديداً على الطينطان الانتفاض في قضايا معيشيّة منذ الطوفان الذي هدّ المدينة في ٢٠٠٧. ففي ٢٠١١ أدّت مقاومة تُجار الماشيّة لمحاولة الدولة مركَزة نشاطِهم وإلزامِهم بالبيع في سوق ماشيّة خاص إلى التحاق المتذمِّرين والمتضرِّرين من الجفاف بالاحتجاجات، التي تحوّلت إلى مواجهات عنيفة سقَطَ فيها سبعة جرحى. ولكن أزمة الطاقة صارَت عبئاً آخر يمنع إمكانيات الازدهار.

إلاّ أنّ هذه الاحتجاجات الشعبيّة المتفاقِمة لا تترجَم إلى المشهد السياسي الرسمي. فالمعارَضة دخَلت في سلامِ النظام منذ صيف ٢٠١٩؛ وقد دخَل قادتها في لقاءات تبدو سريّة المحتوى مع رئيس الجمهوريّة. ومنذ ٢٠٢١ بدأت المعارضة تتحدّث عن حوارٍ وطني، وهو مطلَبٌ قديم عندها. أمّا رئيس المعارضة الراديكالية فأصبَح يُعنوِن هذا السلام مع النظام بالعافيّة. إنّ مصطلَح « العافيّة » ليس خارِج الموضوع .بمفهوم « العافيّة » أساسي في التاريخ التقليدي للعشائريّة الموريتانيّة. فالناظِر في التاريخ الأميري ما قبل الاستعماري يجد أنّ هنالك أمراء للعافِيّة وامراء للحرب. أمراء الحرب هم الذين يدخُلون في صراعٍ مع الجماعة، مع المجتمع السياسي القائم من أجل تمرير إرادتِهم. أما أمراء العافيّة فهم من ير يدون الاتفاق مع الجماعة على قواعِد اللعبة. كان كوبولاني، من خلال مشروعِه القاضي بـ »تأمين » البلاد قائداً للعافية المزعومة من خلال مدّ اليد للمجتمع التقليدي، بل وتأسيس المجتمع التقليدي من وجهاء وأعيان على قائمة أجور الإدارة الاستعمارية وإشراكِه في الأمر. وبهذا المعنى فإنّ « التأمين » الكولونيالي ما زال تأسيسياً للشرعية السياسيّة للدولة الموريتانيّة الحديثة.

لقد بذّل نظام غزواني جهداً كبيراً في شراء العافيّة من الطيف السياسي: أطلَق سلسلة اجتماعات سريّة نجح فيها في إقامة صفقة مع الزعامات السياسيّة ومع الأحزاب وأعلام القوم، بمن فيهما الأكثر راديكاليّة.

إلاّ أنّ مشكلة « العافية » هي أنّها بالذات مفهوم أرستقراطي. فهي تسعى إلى إرضاء الأعيان. ولكنّها غير مكترِثة بإصلاح البين مع الجمهور. لقد بذّل نظام غزواني جهداً كبيراً في شراء العافيّة من الطيف السياسي: أطلَق سلسلة اجتماعات سريّة نجح فيها في إقامة صفقة مع الزعامات السياسيّة ومع الأحزاب وأعلام القوم، بمن فيهما الأكثر راديكاليّة. وبطبيعة الحال فليست هذه مجرّد ديبلوماسية « الزريق »، بل هي عقد سياسي واضِح. فقد انصبّ كثيرٌ من جهد غزواني إلى ترضيّة الفرقاء. إنّ اجتماعات مجلس الوزراء غدَت ممارسة أسبوعيّة في تعيين الوجهاء والأطُر والمعارِضين وتكليفِهم بالمهام الإداريّة. بل لعلّ جزءاً من استسلام المعارَضة لغزواني هو بالذات أنّه بسياسة الباب المفتوح قد أصبَح يُهدّد بسحب أطرِها منها وإدخالِهم في حلف النظام. ولكن إذا اقتدرَت المعارَضة على شراكة سياسيّة مع النظام فإنها قادِرة على استبقاء بيادِقها، بل والقدرة على استدرار مشاركاتٍ منهم في أحزابِها المُفقّرة بعد عشرية استنزاف طويلة. سياسة الباب المفتوح أيضاً يُمارُسها غزواني من خلال زيادة منسوب الرَيْعِيّة في الصفقات العموميّة، التي صارت « صفقات تراضي » يتمّ من خلالِها تحويل العلاقات العامة مع النظام إلى رأس مال وهمي يمكنُه دخول السوق والاستثراء من الدولة.  بالإضافة إلى احتكار التعيينات ونزعها من إطارِها المهني، بما فيه التعيينات الديبلوماسية، فإنّ غزواني يعتمِد كثيراً على إثراء وإفقار الفاعِلين وذويهم. هذه هي العصا والجزرة التاريخية للطائعية. وبدونِها ما كان يمكن لغزواني أن يُحقّق « العافية » مع النخبة السياسيّة. ولكنّ غزواني يفشَل في إحقاق « عافية » مع المجتمع لأنّ نموذَجه في العافيّة الأرستقراطية قائم على فردنة الفاعِلين السياسيين. أمّا الشعب فهو عصِي على الاستفراد. وكما أدرَك القدماء فلا يمكِن شراء أفئدة الشعب إلاّ بمشاريع وطنية كبيرة: وبالأخصّ في المعيشة والرفاه. حاوَل غزواني شراء أفئدة الشعب من خلال سياسة توزيع الدوانيق والتأمين الصحي الجماعي للأسَر الضعيفة. ولكن هذه السياسات ما زالت ضعيفة: أولاً هي وقتية وثانياً، هي محدودة الأثر وغير ممنهجة.إذا أرادَ غزواني شراء العافيّة فعليه الاستثمار في الجمهورية، لا في الأرستقراطيّة. عليه إعادة بناء مدرسة جمهورية.

غزواني يفشَل في إحقاق « عافية » مع المجتمع لأنّ نموذَجه في العافيّة الأرستقراطية قائم على فردنة الفاعِلين السياسيين. أمّا الشعب فهو عصِي على الاستفراد. وكما أدرَك القدماء فلا يمكِن شراء أفئدة الشعب إلاّ بمشاريع وطنية كبيرة: وبالأخصّ في المعيشة والرفاه.

المدرسة الجمهورية هي القادِرة على خلق تدرّج اجتماعي ومساواة الفرص بين الشعب. عليه التكفّل بالأسعار. إنّ موريتانيا اليوم من أكثَر دوَل المنطِقة غلاء بسبب فحش التجّار ومضارباتِهم وبسبب تموّل البيروقراطية من الضرائب بدل إنفاقِها في الخدمات العامة والضمان الاجتماعي. وعليه البذل في الأمن. إنّ مشكلة الأمن اليوم أنّ أجهِزة الشرطة والأمن تقوم على نكس الشعب أكثَر من تأمينِه، كما أنّها تخلق عداءً كبيراً في المجتمع من خلال عنصريتِها واحتقارِها للمواطنين وعدم كفاءتها في معاينة الأشياء. من الأرجَح أنّ غزواني لن يقدِر على الانتقال من الشرعية النخبوية إلى الشرعيّة الشعبيّة؛ لأن الشرعية النخبوية إنّما قامت بالذات على غمض الحقوق الجماهيرية، ذلك أنّ سندها هو طبقة فاسِدة وبلا كفاءات. طبقة كهذه لن تقدر على شراء العافيّة من الشعب لأنّها تقتات على دمِه.

مقالات ذات صلة

ابرز قصص مجبات على فيسبوك