المناهج قبل اللغة

آمال حميدي

في نقاش طريف مع صديق حول نمطية العالم، تساءل ماذا لو كان أول من فكر في عِلم الأشكال قرر دراستها حلزونيا بدل الأشكال المدببة ذات الأضلاع والزوايا؟

كان تساؤلا طريفا أسقطناه على باقي العلوم، ماذا لو فكر منظري العلوم الأوائل بطرق أقل تقليدا بعضهم للبعض، ليفتحوا لنا أبواب بحث أقل نمطية مما وصلنا؟.. خلصنا في نقاشنا أننا اليوم حبيسي نمطية « المفكر الأول » في كل مجال، فهو من يحدد بوصلة العلوم لتتبعه البشرية بحثا وتدقيقا وتجربة، وأن لا وجود لمفهوم « صعب » أو « مستحيل »، فالصعب هو الذي لم تقنع نفسك أنك قادرا على إدراكه، والمستحيل هو ما أغلقت عنه ذهنك.. فقط استرخي و أطلق العنان لذهنك ليتعلم حسب طبيعته، لا طبيعة من فكر قبلك.

ومضتنا التأملية تلك، لم تكن بدعا من التفكير، فعلى أساسها بَنَت العالمة والطبيبة الايطالية ماريا مونتيسوري منهجها التربوي الذي يعد ثورة تعليمية أقلعت بمستقبل الطفل التعليمي، وبينما اليوم تشهد الساحة الوطنية أياما تشاورية حول مستقبل التعليم في موريتانيا وضرورة تعريبه أو العكس، تذكرت المنهج المونتيسوري الذي يجب أن لا يهمله المهتمون بالمجال، وهو منهج يخبرنا أن آلية التعليم الناجح يجب أن تكون من اختيار الطفل وليست مفروضة عليه كقوالب جاهزة يحفظها ليطبقها دون أن يُمنح فرصة تفكيكها وتركيبها من جديد حسب ما يستوعبه ذهنه ليخلق مفهوما جديدا للأشياء حوله ويدركها أكثر.

ماريا مونتيسوري هي طبيبة و فيلسوفة وعالمة نفس إيطالية (1870م-1952م) عرفت بمنهجها التعليمي الذي  يحمل اسمها، تعتبر من أهم شخصيات القرن الماضي بسبب ما قدمته في مجال التربية والتعليم ، ويشَبه بعضهم منهجها باكتشاف كولومبس للقارة الأميركية، فكولومبس اكتشف عالما جديدا خارجيا يعيش فيه الإنسان، بينما ماريا اكتشفت العالم الداخلي المحرك للإنسان.

Description : ماريا منتسوري" .. طبيبة إيطالية حولت عملية التعلم من الممل إلى المتعة  والمرح ! - كتابات

ماريا مونتيسوري في جلسة تدريس

أبدت ماريا اهتماما خاصا بالأطفال الأقل حظوظا في التحصيل العلمي ومن يُستغلون في الأعمال الشاقة، غير أن التحول الحقيقي في مسيرتها حدث عندما كانت تزور مركزا للأمراض العقلية، ولاحظت وجود أطفال متخلفين بين المرضي، فسعت إلى مساعدتهم ، لأنها أحست من تفاعلهم أن مشكلتهم تربوية وليست مرضية، وكانت نتائج تجربتها إيجابية، فقررت أن تعممها.

راحت تحاضر في المؤتمرات، وتنشر دعوتها لوزير التربية في إيطاليا تلك الفترة، بضرورة مراجعة وضعية الأطفال في المصحات العقلية، وأثمر سعيها بإنشاء أول معهد للأطفال المتخلفين عقليا في حي مكتظ بالسكان، وكانت تلك فرصة ذهبية مكنتها من العمل مباشرة مع أطفال تتراوح أعمارهم بين السن الثالثة والسادسة، فطورت من تجربتها وتوصلت إلى نتائج مذهلة مكنت الطفل المتخلف من بلوغ مستوى الطفل الطبيعي.

كان نجاح تجاربها دافعا لانتشار منهجها الذي دربت عليه مدرسات حملن رسالتها، فانتشرت مدارسها في أحياء مدينة روما آنذاك، لمساعدة الأطفال المتخلفين ذهنيا، وهذا النجاح قادها للتفكير في مستويات الأطفال الأسوياء، فإن كان –حسب رأيها- مستوى الطفل المتخلف يصبح، بطريقة ما، متساويا مع مستوى الطفل الطبيعي، فكيف سيكون مستوى الطفل الطبيعي لو عملنا على جودة تحصيله؟ و قالت مرة: (بينما كان الناس في منتهى الإعجاب بنجاح تلاميذي ذوي الاحتياجات الخاصة، كنت في منتهى الدهشة والعجب لبقاء  الأطفال الأسوياء في ذلك المستوى الضعيف من التعليم.)

تابعت ماريا أبحاثها لتكتشف أسباب التأخر التعليمي عند الأطفال الطبيعيين، فشكل العام 1908 مرحلة هامة في حياة هذه الرائدة، حيث كان بداية لانطلاق شهرتها في العالم، وأصبحت تجاربها حديث المهتمين بالتربية والتعليم، وانتشر أسلوبها حتى أصبح معتمدا في بلاد عدة مثل الهند، أستراليا، الصين ، روسيا ، اليابان وطبعا الولايات المتحدة.

منهج مونتيسوري التعليمي يقول أن الآلية التعليمية يجب أن تكون داعمة  لطبيعة الطفل، باستخدام نظام تعليمي بسيط بعيد عن تراكم المعلومات الملقنة والإجبار على حفظها، لأن الطفل يجب أن يتعرف على العالم من من خلال حواسه، وهو يقوم على فلسفة أن كل طفل يحمل في داخله جوهر الإنسان الذي سيكون عليه، ودور المعلم هو نبش الكنوز الدفينة في ذات الطفل ليساعده على أن يصل لذلك الجوهر .. وكلما لقنه ودفعه لتعليم أشياء لا يتفاعل  معها، فهو يجبره على أن يكون عكس طبيعته، بالتالي هو يبطئ عمليته التعليمية ويجعله يتطور بشكل معاكس لما يجعله أكثر إبداعًا وإقبالا على الحياة.

منهج مونتيسوري هو أن يعطى الطفل حرية اختيار ما يتعلمه، ودور المعلم هو توجيهه نحو ما يساعده على التعلم بشكل صحيح، ودفعه للتعلم عن طريق التجربة والملاحظة مبتعدا عن التلقين وتقديم المعلومات المعلبة، وجعله يعقلن كلما ما يجربه وأن يتعلم كيف يعطي تفسيراته الخاصة، تشجيعا له على الاستنتاج أكثر وربط التفاصيل ببعضها. وعودة للجدل المحلي حول مشاكل اللغة، يلاحظ المتأمل للآراء في مشاكل التعليم أنها بعيدة عن عمق المشكلة، وهي المناهج، مركزة على ما تعرض به المناهج، أي اللغة، وهو تفصيل لن يغير كثيرا من الوضع التعليمي ما لم تستخدم مناهج تدفع الطفل للتعليم الذاتي .. فأن تجد فيلما ممتعا، بينته رصينة ورسالته واضحة، لا يهم بأي لغة يقدم، لأن المحتوى القوي ستصل مقاصده بأي لغة عرض، وهذا ليس إقصاء لأهمية اللغة بقدر ما هو دعوة للتركيز على المشكلة الأصل، ومحاولة للحاق بالثورة التعليمية العالمية

مقالات ذات صلة

ابرز قصص مجبات على فيسبوك